رحلة قصيرة جداً
بقلم / منيف الضَوِّي
فاجأني المذيع الداخلي لرحلة السعودية المُتجهة إلى رفحاء (شمال المملكة)، بذكر اسمي وتهنئني (باسم الخطوط السعودية) بفوزي بجائزة التعليم للتميز ، وضجّتْ الطائرة بتصفيق الركاب، وكانت لفتة جميلة ومحرجة لي في ذات الوقت، وعلمت فيما بعد أن الوزارة فعلتها مع كل الفائزين بجائزة التعليم للتميز، بالتنسيق مع الخطوط الجوية السعودية.
وقد حَظيتُ بمباركة بعض الركاب ممن أعرفهم وممن لا أعرفهم، والذين توافدوا إلى مقدمة الطائرة لتهنئتي، والتقط المُضيفون الصور التذكارية معي حاملاً درع التميُّز، كانت لحظات جميلة جدا وشعرت بسعادة وتقدير، وقرّرتُ أن أتصرَّفَ كما لو كنتُ مشهوراً، لا مانع من الاستمتاع بالظل الزائل، وأحسستُ بالشعور اللذيذ الذي ينتابُ المشاهير، حتى لو كان نطاقُ شهرتي ضيّقاً ومؤقتاً لايتجاوز حدود هذه الطائرة الصغيرة.
فلما عُدت إلى مقعدي كان بجانبي رجل من أهالي رفحاء (لا أعرفه) يبدو أنه في العقد الرابع من عمره، فبارك لي ودار بيننا حديث تعارف عن التعليم وقضاياه وأخبرني أن زوجته معلمة، وهو في قطاع آخر بعيد عن التعليم، واستطرد في حديثه معي مخبراً أنه يتردد على الرياض بشكل مستمر، فقلت له:
هل عملك في الرياض؟
قال: لا، أعمل في رفحاء، ولكن تقاعدت مبكراً بسبب المرض.
استرقتُ النظر َ إليه خلسةً على استحياء، فربما كان معاقاً، ولكن لم ألحظ شيئاً من ذلك، ولم أرَ إلا رجلاً سليم الجسم والعقل، فقلتُ له:
سلامات؟ مابك؟
قال مباشرة وكأنه يريد أن يقفز على مشاعره:
أنا مريض بالسرطان، وأمضيتُ سنوات في العلاج الكيميائي، وأسأل الله حسنَ الخاتمة.
بَدَتْ كلماتُه لي كمَنْ كان مُوقناً بقربِ نهايته، ولَفَظتْ عِبَاراتُه عَبَراتٍ مدفونةٍ تُعرِبُ عن يأسهِ وعجزه.
صدمَتْني كلماتُه، وشعرت بقشعريرة أسى تَسْرِي في جَسَدي، وبدأتُ أتماسكُ وأخفي مشاعر التعاطف والشفقة، فالتفتُّ إليه، وأخذتُ أحدِّثهُ عن الأمل، وعن أهمية الدعاء، وأن الشفاءَ بيد اللهَ وحده، وأن المعجزة الحقيقية هي في إيماننا المطلق بالله سبحانه، ثم استحضرتُ قصصاً خطرتْ في بالي واستدعاها شريطُ الذكريات عن أناسٍ كانوا قاب قوسين من الموت، ولكنهم عاشوا وماتَ كل من كان يعودُهم ويواسيهم. كنتُ مدفوعاً بمشاعرٍ مؤلمةٍ تعتصرني؛ ولكني تحدّثتُ معه بصدق، وبكل أحاسيسي، وقد لاحظتُ الارتياحَ يعلو ملامِحَهُ المستسلمة، وكان يرددُ:
الله كريم، الحمد لله على قضائه.
التَفتَ ناحيتي وقال:
زيارتي الأخيرة للدكتور جعلتني أنظرُ إلى الموت باستخفاف، فعندما تقتربُ من الموت تجده شيئاً لايُخيف بالمقدار الذي يُخيفنا هاجسه، ثم نظر إليَّ بحزن، وقال:
تعرِفُ ماهو الموت الحقيقي؟
وأجاب دون أن ينتظر إجابتي، بعد أن خفضَ طرفَه:
الموتُ الحقيقي هو فراقُ بناتي الثلاث، كلما أتيتُ من الرياض يتسابقنَ للسلام عليّ وينتظرنَ الهدايا التي بَدَأتْ تتناقصُ في كل رحلة، ولا تعلَمُ هؤلاء الصغيرات عن والدهن إلاّ أنه يُسافرَ ليجلُب لهن اللُعب والدُمى.
التفتَ إليّ وقال بحزم وبملامح جادّة:
هل تعلم أني لا أرغبُ في رؤيتهن رغم غيابي الطويل عنهن!
كنتُ أدركُ مشاعرَ الأب؛ وأشعر بقسوة فكرة الغياب؛ فتَمَلَّكتني رغبةٌ في احتضانه، والبكاء معه، فساد صمتُنا لحظات، كنتُ لا أنظرُ خلالها إلى شيء، كنت أُطرِقُ مَليّاً، زفرتُ تنهيدةً كبيرة، وإذا بصوتِ المذيع الداخلي يُعلنُ قربَ هبوطنا في مطار رفحاء.
ودّعتهُ على وعد أن نلتقي، وتبادلنا أرقام الهواتف، وهبطتْ الطائرة، وكنتُ في حالة كآبةٍ وحزن واستصغار للدنيا، أفكرُ في تفاهتِها وتهافُتِنا عليها.
ولما استوتْ الطائرةُ واقفةً على المدرج، أخذتُ حقيبتي اليدوية ودرعي، وأثناء مروري بالمقاعد أصادف مَْن يهنئني ويباركُ لي، بدأتُ أستردُّ ابتسامتي الحزينة شيئاً فشيئاً، حيث كدتُ أن أنسى أنني حزتُ جائزة تستحق الفرح، ووسط احتفاء الأهل والأصدقاء، وسيل مكالمات ورسائل الجوال المهنئة، غِبتُ في لحظات نشوةٍ وسعادة، ونسيتُ صاحبي المريض بالسرطان، الذي يُودع أيامه الأخيرة، بل لم أتذَكّره بعد ذلك في خِضَّم بالونات الفرح التي تتفجّرُ ضاحكة في كل مناسبة وحفلة، تُعلن تحالفها القوي مع النسيان.
كم هي تافهة هذه الحياة!
وكم هي قصيرة كطيفِ حُلم!
هي تماماً كرحلة الطائرة التي قَدِمْتُ عليها، قصيرةٍ، تصلُ إلى نهايتِها بسرعة، وتحملُ على ظهرها أناساً يحتفلون بأفراحهم، وآخرين يعيشون أتراحهم، وكلهم يصل إلى نهايته بذات السرعة دون أن يشعروا.
كان درس (الجائزة) مفيداً جداً، ولكني لم أستفدْ منه -بكل أسف- ؛ فالدنيا تُغرينا وهي متاعُ الغرور، ولا نُفيقُ من غرورها إلاَّ بمصيبة تُعيدنا إلى صوابنا.