مقالات

الواقع الحالي لعلاقة الولايات المتحدة بالشرق الاوسط

 

بقلم – المستشار فلاح بن هندي:

تضرب الشرق الأوسط تيارات التصارع ، والخلافات الإقليمية ، منذ ولادته بشكله المعروف في عصرنا الحالي تقريباً في أعقاب نهاية الحرب العالمية الاولى متدثرة برداء مختلف في مرة. فمن رداء المشاكل الحدودية والتنافس الإقليمي بين الدول في حين، ورداء الصراعات الطائفية في حين آخر، الى رداء الارهاب المتلون بأكثر من لون، تشكلت صورة الشرق الأوسط المعروفة اليوم. تولت الإمبراطورية البريطانية وشركاؤها المنتصرون في الحرب الكبرى، كما تصفها المراجع العسكرية الغربية، اقتسام الغنائم في هذه المنطقة من العالم، وحافظت تلك القوى الدولية على تواجدها فيها حتى خارت قواها بعد الحرب العالمية الثانية، لتبدأ في مرحلة الانسحاب التدريجي من المنطقة، حتى أخلتها تماما ً من قواتها العسكرية في مطلع السبعينات من القرن الماضي. تركت قوات الإمبراطورية البريطانية وحلفائها المنسحبة من المنطقة فراغاً أمنياً كبيراً أستهوى القوى الإقليمية لإشبلاع أطماعها التوسعية. إحتلت إيران جزر الإمارات العربية المتحدة، وهددت تركيا باجتياح شمال العراق، وقامت إسرائيل بإحتلال اراض فلسطينية ومصرية وسورية ولبنانية، واندلعت الصراعات على السلطة في إيران والعراق واليمن وسوريا ولبنان، ثم أتت الحرب العراقية-الإيرانية الطويلة كشاهد إثبات على الفراغ الامني ، والتنازع الإقليمي المحموم على الحدود والنفوذ وفرض الإرادات.
حلت الولايات المتحدة بثقلها العسكري والسياسي محل الإمبراطورية البريطانية الغابرة في التدخل في شؤون المنطقة، وترتيباتها الأمنية في ذروة صراعها مع المعسكر الشرقي ، إبان الحرب الباردة، في محاولة لوقف نفوذ غريمها الشرقي ذلك الحين ، الإتحاد السوفياتي، لمنعه من الاقتراب من منابع النفط في المنطقة. تبادل القطبان العالميان حينذاك الإعلان عن إهتمام خاص بالمنطقة. فقد بادر الجانب الأميركي الى الإعلان عن مبدأ كارتر ، الداعي للدفاع عن مصالح الولايات المتحدة في المنطقة بقوة السلاح إن دعت الحاجة الى ذلك، بعد إحتلال خصمه السوفياتي أفغانستان في العام ١٩٧٩م، واقترابه أكثر من المنطقة. في الجانب الآخر ، قابل الاتحاد السوفياتي الإعلان الأمريكي بإعلان بيريجنيف السوفياتي، الداعي لإخلاء المنطقة من السلاح الاجنبي، في رفض صريح لفكرة تواجد قوات المعسكر الغربي فيها.
لم تستطع حكومة الولايات المتحدة أن تملأ الفراغ الأمني في المنطقة بشكل كامل، ولم يتدخل السوفيات فيها عسكرياً الا في نطاق ضيق خشية من إثارة مواجهة صراع مباشر مع خصومه الغربيين. ويجد المتصفح لتاريخ المنطقة في تلك الفترة، أن الكتلة الشرقية والمعسكر الغربي لم يأبه أي منهما للصراعات الإقليمية المتكررة في المنطقة، الا بقدر ما يفي بمصالحهما الاستراتيجية، ويحول دون خسارتها لصالح الخصم الآخر حينها. وبنت الولايات المتحدة وسائل تحقيق مصالحها في المنطقة على مساندة حلفائها التقليديين من القوى الإقليمية فيها دون تدخلات عسكرية مباشرة الا في نطاق محدود. ضلت السياسة الأمريكية على هذا المنوال حتى أنتهت الحرب الباردة رسميا ً بين المعسكرين مع سقوط جدار برلين وبدء تفكك الإتحاد السوفياتي الذي أكتمل في نهاية العام ١٩٩٠م، بعد عام واحد من سقوط الجدار البرليني. أرادت الولايات المتحدة بعد خروج خصمها اللدود من معادلة الصراع العالمي، وانفرادها كقطب أوحد في السياسة الدولية، أن تعيد ترتيب أوراق العالم حسب رؤية قادتها السياسيين والعسكريين. ومن تلك الرؤى الإستراتيجية، تدخلت الولايات المتحدة بشكل كبير ومباشر في شؤون المنطقة تحت ذرائع مختلفة ومختلقة في في معظمها لم تقنع العالم. احتلت الجيوش الاميركية أفغانستان بعد قرابة العقد من الزمان منذ خروج القوات السوفييتية منها، ثم اتبعتها بالاحتلال المباشر للعراق، وجابت أساطيلها بحار المنطقة، واستضافت بعض دول المنطقة القواعد العسكرية الاميركية، في غياب تام لقطب عالمي قادر على تشكيل قوة رادعة تهدد مطامع ساسة البيت الابيض. وبعد عقود من التواجد العسكري الاميركي المباشر في المنطقة، بدأت المعادلة الدولية والحسابات الجيواستراتيجية في التغير لدى الساسة الاميركيين. أحكمت المتغيرات على الساحة الداخلية الأمريكية، والمتغيرات على الساحة الدولية تطويقها للفكر السياسي الأمريكي محاصرة إياه بمتطلبات مستجدة دفعته الى تغيير تقييمه للعلاقات الخارجية لاسيما نظرته لأهمية منطقة الشرق الاوسط. أتت التكلفة الباهظة الثمن للتواجد الأمريكي في المنطقة، والصعود الصيني المتسارع كقوة عالمية منافسة للقطبية الأمريكية المتفردة، واستعادة روسيا الاتحادية، الوريثة للقطب السوفياتي، عافيتها الاقتصادية والعسكرية، كأبرز المتغيرات الضاغطة على القرار السياسي الأمريكي في العقد الأخير تجاه إعادة النظر في قائمة الأولويات الاستراتيجية لها. لذلك، أجبرت الولايات المتحدة على تغيير أتجاه بوصلة اهتماماتها العسكرية والتنافسية الى مناطق جديدة ليس من ضمنها منطقة الشرق الاوسط. وهذا قد يفسر، الى حد ما، الانسحابات المتتالية للقوات الاميركية من المنطقة، التي بدأت بالانسحاب من العراق في العام ٢٠١١م ، ثم اتبعته بالانسحاب من أراضي افغانستان مؤخراً. لم يعد التواجد العسكري الاميركي المكلف في العراق ذا جدوى إستراتيجية للأمريكين تستحق المقابل البشري والمادي المدفوع للبقاء، ولم تعد افغانستان مغرية لروسيا الاتحادية ، ولا تتوقع الولايات المتحدة من ظهور قوة موالية للروس في الارض الأفغانية قد تهيمن بها روسيا على افغانستان مجدداً. وفي جانب آخر، لن تكون أفغانستان مطمعا لحكومة بكين، المنافسة لها على الساحة الدولية، بل على النقيض من ذلك، قد تكون أفغانستان بؤرة مقلقة لحكومتي موسكو وبكين على حد سواء، وتكون من جانب آخر، حلاً أمريكياً لدرء خطر المتطرفين عنها. ولإيضاح هذه المعادلة المعقدة، قد تتحول أفغانستان بعد الانسحاب الاميركي منها الى بؤرة جاذبة للتيارات الجهادية الإسلامية المتعددة ، وهذا ما قد يحقق لها العديد من الأهداف الاستراتيجية في الحقبة المقبلة من صراعها مع الصين وروسيا.

تعاني روسيا الاتحادية من تهديدات التيارات الأصولية في وسط اسيا، سواء في الجمهوريات المستقلة أو في الجمهوريات التي لا تزال تحت مظلة الاتحاد الروسي، كما تعاني الصين كذلك، من ضغط الأقلية المسلمة فيها، التي ترفض المبادئ الشيوعيه لحكومة بكين القاسية على حريتها الدينية. لذا، قد تجد التيارات الاسلامية الجهادية في وسط آسيا، ملاذا ً آمناً في افغانستان ، يشجعها على إقلاق القطبين المعاديين للولايات المتحدة وفتح جبهة جديدة عليهما، ويسهم من جانب آخر، في جذب الأصوليين الجهاديين بعيداً عن المسرح الغربي، واستهداف مصالح الولايات المتحدة ، الذي كان تحت مجهر الجهاديين منذ انتهاء الحرب الباردة.
في هذه الحسابات الإستراتيجية الاميركية، المتفحصة للمتغيرات الدولية، خسرت منطقة الشرق الاوسط الاهتمام الأميركي، وتحول التركيز على مناطق المواجهة المتحملة مع تصاعد الخطر الروسي والصيني، مثل مناطق أوروبا ، ومناطق شمال المحيط الباسفيكي، ومناطق ، بحر الصين الجنوبي. في خضم حساباتها للمتغيرات الدولية، تخشى الولايات المتحدة من فقدان نفوذها لصالح أحد منافسيها على زعامة العالم ، مما يدعم توجهها الى المحافظة على معادلة التفوق عليهما ، دون النظر في حل مشاكل منطقة من غير المتحمل أن تكون منطقة مواجهة مع أي منهما ، كمنطقة الشرق الاوسط. لذلك، تشير القراءات الأولية لهذا التحول في المنظور الأمريكي، الى أن منطقة الشرق الاوسط ستكون مقبلة على ترتيبات أمنية جديدة لا وجود فيها لقوة عالمية تفرض السلام فيها، كما اعتادت عليه في صراعاتها الإقليمية خلال القرن الماضي. لهذا السبب، كما أرى، لم تجد الصراعات الأهلية في سوريا وليبيا ولبنان اهتماماً دولياً ينهيها، ولم تحضى القضية الأزلية في المنطقة بذات القدر من الاهتمام والبحث عن حلول لها منذ أكثر من عقدين تقريباً. لذا، أتوقع أن الدول الإقليمية ستتولى مسؤولية المحافظة على أمن كياناتها بذاتها ، أو بإنشاء مظلات تحالفات استراتيجية جديدة توفر لها القدر الأدنى من ضروريات أمنها الوطني. ولا يستغرب في ظل هذا الوضع الإقليمي المتغير في المنطقة من قيام دولة أو أكثر من دول المنطقة ، في قادم العقود، بتغيير قوائم الاعداء والأصدقاء والحلفاء ، وتقديم تنازلت سياسية، لتشكيل كتل أمنية جديدة، تحقق مصالحها الوطنية، وتغير الخارطة الجيوسياسية في المنطقة. ولعل توقيع “الاتفاق الإبراهيمي” ، كما تسميه الإدارة الأميركية، يأتي في هذا الإطار من التحالفات التي كانت ضرباً من الخيال قبل سنوات ليست كثيرة. وفي خلاصة القول، لم تعد منطقة الشرق الأوسط ، على أقل تقدير في المدى المنظور، محط إهتمام القيادة الأميركية بها، ولن يغير هذه النظرة تعاقب الإدارات في البيت الأبيض، طالما لم تهدد الصين أو روسيا مصالحها في المنطقة أو يتعرض الأمن الاسرائيلي، الحليف لها، الى تهديد حقيقي. لذا، ستتجه المنطقة الى مزيد من الصراعات بصور مختلفة، لا يتعدى تأثيرها دول المنطقة ، ولن تجد دول المنطقة مناص من مواجهة صراعاتها المريرة دون تدخل خارجي، ودفع تكاليف أمنها الوطني بنفسها. لهذا، أرى، ختاماً، أن المملكة العربية السعودية وجمهورية مصر العربية، هما الأكثر كفاءة وقدرات إقتصادية وعسكرية وبشرية، مستعدة لمواجهة التغيرات الجيوسياسية في المنطقة والخروج بسلام من الصراعات الإقليمية والمحافظة على مصالحهما الوطنية حتى في غياب الرقيب الدولي.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى