مقالات

أنا … والعرفج … والجامعة

 

بقلم المستشار/ عيسى خيره روبله

مدير عام اتحاد وكالات أنباء الدول الأعضاء في منظمة التعاون الإسلامي

حينما أهدى إلىَ صديقي  الدكتور أحمد العرفج مجموعة من مولفاته ومنها كتابه( المهمل من ذكريات طالب متنبل )، شكرته على هذه الهدية القيمة ، لكنني لم أتوقع أنني سأقرؤها فعلا وذلك لانشغالي الشديد بمهام عملي ولأنني لم أعد شغوفا بالقراءة والكتابة بعد أصبحت ضحية – كغيري- لغزو وسائل التواصل الاجتماعي التي سيطرت على عقولنا وعودتنا على الكسل وقراءة الرسائل والمعلومات القصيرة والسريعة .

مرت أيام على دخول هذا الكتاب إلى مكتبيى دون أن يحظى بالاهتمام المطلوب .وحيث ان المرء يحتاج أحيانا إلى الهروب من ضغوط العمل والتنفيس عن النفس بممارسة هواية أخرى و قراءة الكتب أو الصحف و لأن( خير صديق في الزمان كتاب )، قررت أن أقرأ كتاب ( المهمل من ذكريات طالب متنبل ).

فتحت الكتاب للقراءة من الوسط وليس من البداية كما جرت العادة .وكانت الصدفة العجيبة أن عيني  وقعت على فقرة تتحدث عن المرحلة التي قضاها الكاتب في الجامعة الإسلامية في المدينة المنورة  في التسعينات من القرن الماضي .وأثارت هذه الفقرة ذكرياتي السابقة عندما كنت طالبا  ايضا في الجامعة نفسها وفي نفس الفترة  تقريبا. وجدت الكاتب وكأنه يتحدث نيابة عنًي وبلسان حالي وهو يسرد حكاياته وتجاربه مع قوانين الجامعة  حيث كان( من شروط القبول في الجامعة أن يلتزم الطالب بالمظهر الإسلامي، وهذا الشرط المقصود به أن يلتزم الطالب بالمظهرالخارجي للاسلام  )!! وهو شرط لم يتوفر فيه لطول ثيابه وحلق لحيته!!.

قد يبدو هذا الطلب أو الشرط منطقيا  إذا عرفنا أن بعض المؤسسات التعليمية تطلب من طلابها الالتزام بنوع معين من السلوك أو المظهر ، لكن الأمر الذي بدا لي غريبا ولا أزال أتذكره إلى يومنا هذا هو قصتي مع مشرف الوحدة السكنية  ،أو بالاصح، المشرف على الصلاة !.

عندما علمت بقرار قبولي في الجامعة الاسلامية في العام 1990 م لم أتمالك نفسي من البكاء من شدة الفرح ، ليس لأنني قبلت في الجامعة بل لأنني ذاهب إلى المدينة المنورة ! . كيف لا وفيها المسجد النبوي الشريف وقبر الحبيب المصطفى وفيها (تلك القبة الخضراء وفيها نبي نوره يجلو الغياهب ).

كيف لا افرح وأنا ذاهب إلى مدينة أعرفها ولكن نظريا من خلال السير والكتب ، وقريبا سأعيش فيها واقعا حيا وسأتمكن من رؤية الأماكن التاريخية فيها مثل جبل أحد وموقع معركة أحد  وغير ذلك من المعالم  الاثرية الاسلامية.

كانت فرحتي لا تقاس خاصة عندما وصلت إلى  حرم الجامعة لاول مرة حيث انبهرت بالجو الاسلامي فيها وجمال المسجد في الجامعة . ولذلك كنت أذهب إلى المسجد قبل أن يؤذن المؤذن للصلاة لأكون في الصف الاول .

وفي يوم من الايام حصلت لي قصة عجيبة لم استطع أن افهمها  في البداية لغرابتها . فبعد أن صليت صلاة العصر في مسجد الجامعة خرجت من المسجد مسرعا إلى دورة المياه في الوحدة السكنية الاولى،  وفجاة سمعت شخصا يدق علىَ الباب ، فظننت أنه  شخص بحاجة إلى الحمام وخرجت بسرعة من باب مساعدة الأخ لاخيه ، خاصة وأننا في المدينة المنورة وبالنسبة لي أن من فيها يتصرفون كالجيل الاول من الصحابة كما درسناها في سير الصحابة  رضوان الله عليهم.

لكنني فوجئت برجل يمسك ورقة وقلما  ويسألني أين صليت  ؟ لم أفهم سؤاله في البداية فنظرت إليه نظرة مستغرب وقلت له ماذا تقول ؟ فكرر عليَ السؤال أسألك أين صليت؟  فازدادت دهشتي  من هذا السؤال . كيف لأحد الحق في أن يسألني أين ومتى صليت ؟ والصلاة بالنسبة لي واجب من الله تربينا على حرصها منذ الصغر !!.

لم أجد جدوى من التحدث مع هذا الرجل ، وذهبت في طريقي إلى غرفتي.  لكنني وجدت الرجل مرة اخرى  يمشي ورائي ليسجل رقم غرفتي . وبعد قليل ذهبت إلى زملائي الذين سبقوني إلى الجامعة وذكرت لهم القصة ، فانفجروا بالضحك وذكروا لي أن ذلك الرجل هو المشرف على الوحدة السكنية ويسجل أسماء المتخلفين عن صلاة الجماعة،  وأ نً علىَ أن اذهب إليه واعتذر له حتى لا يرفع اسمي إلى عمادة شئون الطلاب ، وفي حال رفع اسمي مرتين تخصم مني المكافاة الشهرية الممنوحة للطلبة  وقد تفصل من الجامعة !.

وذكروا لي قصصا أخرى حصلت لطلاب آخرين وحكايات أقرب إلى الفكاهة منها إلى الواقع.  لذلك  أوافق الدكتور أحمد العرفج  في سؤاله في ثنايا الكتاب عن ( كيف تثق الجامعة بطلاب سيكونون دعاة وهم لا يصلون إلا بالقوة والمحاصرة وقفل الأبواب والمنافذ ؟).

ومن المعلوم بداهة أن الإكراه لا ينتج إلا واحدا من شخصين : إنسان غليط يمارس الإكراه على الاخرين كما تعلمها  أو انسان متمرد يرمي بالحائط كل ما تعلمه تحت الإكراه ولو كانت لمصلحته ولكن انتقاما من الشخص او الجهة التي أكرهته على ذلك .

عموما أصبح هذا الكتاب صديقا لي يسافر معي حيث أسافر وبدأت أعيد قراءته من أول صفحته لأجد  الدكتور العرفج مرة اخرى وكأنه يتحدث عن أحوالنا في الصغر، وعن العقبات التي واجهته في طريقه إلى النجاح .أوليس حاله ينطبق على كل من يحاول السير نحو الأمام ليصطدم بواقع يعاديه وبيئة تجره  إلى الوراء وتقول له إياَك أن تتقدم ؟

ألم يقل المتنبي ، وقد تملكه اليأس من الدنيا :

(لحى الله ذي الدنيا مناخا لراكب      فكل بعيد الهم فيها معذب) !

لكن الناجحين في هذه الدنيا لا يستشهدون ببيت المتنبي المتشائم بل ببيت اخر محفزا للهمة :

(لاستسهلن الصعب أو أدرك المنى     فما انقادت الآمال إلا لصابر )

وهذا ما آمن به مؤلف الكتاب الذي لم يترك لليأس مجالا يتسلل إليه ، بل واصل يشق طريقه مفعما بالعزيمة ومدججا بسلاح من آخر أقوى من أيً سلاح ، ألا وهو سلاح برِ الوالدين .وكما يقول أحدهم:  لم أجد انسانا ناجحا إلا ولبر الوالدين نصيب في ذلك ، ولم أجد شخصا فاشلا إلا و لعقوق الوالدين نصيب في ذلك . هنيئا لمن تكبد المشاق لينال درجة علمية ليضعها تحت اقدام أمه!!!!.

إن هذا الكتاب سيرة ذاتية لمولفه كما يظهر من العنوان . وقد يسأل سائل  لماذا يسجل شخص ما سيرته الذاتية ومالفائدة من ذلك ؟

الحقيقة أن السيرة  الذاتية نوع من أنواع الأدب السردي،  يتحدث فيه كاتبه عن مراحل من حياته. لكنه لا يذكر كل التفاصيل في حياته وإنما يكتفي بذكر  المحطات الرئيسية التي أثرت في مسار حياته ، من أجل اتخاذ موقف معين من بعض القضايا الاجتماعية والسياسية .و في الغالب هناك قواسم مشتركة بين كُتاب السير الذاتية  مثل الانتقال من نمط عيش وبيئة معينة إلى أخرى تختلف كلية ، وبالتالي يحاول إصلاح المجتمع ولو بصورة غير مباشرة . وكذلك ذكر المعاناة التي مروا بها ليبينوا للقارئ أن ليس هناك شيئ مستحيل إذا ما توفرت النية. ونجد ذلك في كتابات الدكتور طه حسين وتوفيق الحكيم وجان جاك روسو وغيرهم  .

هكذا نجد أن كتاب ( المهمل من ذكريات طالب متنبل)  يحتوي على فوائد جمة وتجارب عديدة  مر بها الكاتب في حياته  ليصل إلى ما وصل ، وبالتالي يريد نقله الى القراء حتى لا يبخل بما في داخله من شعور ومعرفة خاصة وأنه اختار لنفسه اسم : عامل المعرفة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى