مقالات
«إطعام».. مسؤولية حفظ النعمة
محمد المختار الفال*
كنت، وما زلت، أرى أن ساحة الرأي في وسائل الإعلام «ملكية عامة» يعود نفعها على المجتمع ولا تستغل إلا لمصلحة المجموع، فهي نافذة تتيح لأصحاب الرأي من الكتاب والمعلقين والخبراء والمعنيين بالشأن العام أن يشاركوا بآرائهم وأفكارهم ومقترحاتهم لإصلاح شأن مجتمعاتهم، والإسهام بما يرونه نافعاً في ترشيد مسيرة التنمية واستثمار الطاقات في قطاعاتها المختلفة، وأن هذه القناعة المترسخة توجب ألا يشغل صاحب الرأي متابعيه بشؤونه ومصالحه الشخصية أو خواطره الذاتية أو مشاعره الخاصة إلا بالقدر الذي تتماس مع حياة الناس وتناقش قضاياهم وتؤثر في همومهم المشتركة. واليوم، أبيح لنفسي مخالفة هذه القناعة وأن «أخلط» الخاص بالعام من منظور الترابط بينهما في قضية «الهدر» الذي بات ظاهرة مستشرية في مجتمعنا يتورط في اقترافها كثيرون، حتى من الذين ينتقدونها، وما أبرئ نفسي، على رغم جهود مشكورة تنهض بها مجموعة من الرجال والنساء المخلصين من أبناء مجتمعنا.
والخاص الذي أبيح لنفسي إشغالكم به هو أنني قررت هذا العام – من بداية شهر رمضان – التوقف عن الكتابة وملاحقة الاخبار والاستغراق في رصد ما يدور في شبكات التواصل الاجتماعي، وأن أجرب «الهدوء» وإعطاء الروح حقها في إراحتها من لهاث المتابعة وقلق رصد كل شيء والحرص على المشاركة في الأحداث.. وسألت نفسي، قبل خوض تجربة «العزلة»؛ ما الذي سيخسر العالم لو لم نتابع أحداثه؟ وماذا سنفقد نحن لو لم نتابع أحداثاً لم نشارك في صنعها ولا نملك القدرة ولا الوسيلة لإيقافها أو التأثير في مسارها ونتائجها؟ وانتهيت إلى أنه لا شيء سيحدث، لا للعالم ولا لنا.
وبدت لي، في هذا التوقف، الاختياري، أشياء مضحكة وأخرى ساذجة بلهاء، وتكشفت لي مساحات من وهم الأهمية لدى كثيرين، وخداع النفس بضرورة الحضور في كل شيء، وغرور بعضهم واعتقادهم أنهم «المحيطون» بكل ما يحدث في هذا الكون، وتبين لي أن كثيرين مخدوعون بانشغالهم بقضايا كبرى لم يشتركوا في نسج تفاصيلها ولم يستشاروا في منشئها ولم يُسألوا عن مسارها ومصيرها، ومع ذلك تراهم يفرغون الوقت والجهد، لتصورهم أنهم قادرون على إصلاحها ومعالجة آثارها، وبدا لي، كم هم مفرطون حين ينشغلون بتلك القضايا وتغيب عن اهتماماتهم «الأشياء الصغيرة» التي تحيط بهم وتؤثر في حياتهم وتحدد علاقاتهم بمحيطهم الأسري الصغير والاجتماعي الأوسع، بدا لي، في لحظة هدوء، أن ملاحقة أخبار الحروب والحرص على إبداء الرأي في أسباب نشوبها ومآلاتها والعلاقة الملتبسة بين مشعليها وتبدل مواقفهم وتخفيهم خلف تدابير المكائد السياسية وزرع الخصومات لمصالح آنية، «استغلال» تدور في فلكه المجتمعات والدول المغلوبة على أمرها، كما يتورط فيه الأفراد توهما أنهم ينطلقون من مواقف أصيلة وليست حركة لا إرادية تمليها جاذبية المحركين الكبار، من خلال واجهات أدواتهم الصغار.
بدا لي أن هذا الجزء من العالم الذي نعيش فيه «متورط» في لعبة المسائل الوقتية والجزئية على حساب الحقائق الجوهرية، ما يوقع كثيرين في تجاوز «المقدور عليه» إلى توهم السيطرة على «المحتمل»! كنت، في بعض الأوقات، خلال شهر الصيام، أنظر إلى كمية «الطعام» على موائد الإفطار، في البيوت والمطاعم، وقدر المستهلك منه ومآل ما يزيد على حاجة أصحاب تلك الموائد، وأسأل نفسي؛ لماذا تتضخم موائدنا في هذا الشهر عاماً بعد عام، على رغم مساحة ما يشغله الوعظ في وسائل إعلامنا والتذكير بخطر الإسراف وضرورة حفظ النعمة؟ ولماذا تتسع المسافة ما بين ما نعرفه من توجيهات الدين وما نطبقه في حياتنا؟..
أليست هذه نظرة سلبية تظلم الناس؟ لكن هناك مساحة عريضة من الإيجابية تبعث الأمل وتؤكد أن المجتمع بخير، حين نرى حرص كثيرين على البحث عن كيفية إيصال فائض الطعام إلى المستفيدين منه بصورة متحضرة تحفظ كرامتهم وتصون عرضهم وتكرم آدميتهم، نعم هذا شيء جميل ويبشر بالخير العميم، لكن لماذا لا نفكر، نحن جميعا، في كمية الطعام قبل طبخه؟ لماذا نجعل رمضان «موسما» لعرض الموائد الفاخرة والتنوع في أصناف الطعام، ثم نجد أنفسنا مضطرين
للبحث عمن يأكله قبل أن يفسد؟ هل فكرنا في أن إيصال 100 ريال إلى أسرة محتاجة أفضل لها من قدور مليئة بالمقليات والأرز واللحم وأطباق الحلويات وسلال الفاكهة؟ لماذا لا نكتفي، في رمضان وغيره، بما نستهلك حقيقة لا بما نشتهي قبل الإفطار؟ نجد أسرة قليلة العدد تجلس حول مائدة إفطار مليئة بالأصناف، وقد قضت في إعدادها نساء الأسرة، ومن يعاونهن، الساعات واستخدم فيها من المواد ما يكفي لإطعام العشرات! أعترف لكم بأنني حاولت، في أسرتي الصغيرة، ولم يحالفني كامل النجاح، وإن توفرت القناعة بضرورة تصحيح هذا السلوك، مع التدرج حتى يتم التكيف مع واقع المجتمع من حولنا (تبدو حجة غير مقنعة لكثير منكم).
وحين قررت تجربة الهدوء و«إطفاء المحركات» توقفت عن حضور المناسبات العامة ما لم تدع الحاجة إلى ذلك، لكن لسبب أقنعت نفسي به، حضرت، في الخامس من رمضان، احتفال جمعية «إطعام» بتدشين مبادرة «ثلث لطعامك» في جدة، وهي مبادرة تهدف إلى «حفظ النعمة» ودعوة كل المجتمع إلى الإسهام في هذا الهدف النبيل، الذي يحفظ المال ويعين المحتاج ويرسخ قيم الدين ومبادئه الداعية إلى التمتع بنعم الله من دون إسراف أو تقتير.
وعلى رغم أن فعل الخير وصون النعمة ثقافة أصيلة ومتجذرة في المجتمع، فإن السنوات الأخيرة شهدت مبادرات تتسق مع التطور للاستفادة من التجارب العالمية المتصلة بهذا المجال المهم، ومن تلك المبادرات جمعية «إطعام»، التي أراد القائمون عليها أن تكون «بنك الطعام السعودي» لإيقاف الهدر، وبناء شراكات استراتيجية مع الهيئات الحكومية ومنشآت القطاع الخاص ومؤسسات المجتمع المدني، لنشر ثقافة حفظ النعمة وخلق فرص جديدة للمهتمين وتدريب الكوادر الوطنية من أبناء الأسر المستفيدة وحفز قطاعات المجتمع كافة على العمل التطوعي، وتسليط الضوء على منافعه وآثاره في المجتمع، وتشير الأرقام إلى اتساع ثقافة التطوع وانتظام شباب الوطن (من الجنسين) في مؤسسات النفع العام، وهو اتجاه يستحق الدعم والتشجيع وتذليل العقبات وتعاون كل القطاعات لترسيخه، بما يجعله جزءاً أصيلاً من المنظومة التعليمية والعملية.
* كاتب سعودي.
* نقلا عن صحيفة “الحياة”
* نقلا عن صحيفة “الحياة”