بقلم: وداد معروف
المجموعة القصصية الأولى للأديب السعودي حسين بن صبح الغامدي, المحاضر في كلية التقنية بجدة,
تقع في 60 صفحة من القطع المتوسط, بها 36 قصة قصيرة جدا, صدرت عن دار تشكيل عام 2019, أهداها إليَّ الصديق حسين الغامدي حينما التقينا في معرض القاهرة الدولي للكتاب 2020.
بدأ أديبنا مجموعته بهذا الإهداء
” إلى صديقي أبي تميم, كثير من الأحداث السيئة حدثت نتيجة رحيلك ”
هذا الصديق هو الحاضر في قصة ” الغائب ” الذي يتفقده دائما في بداية كل سهرة مع أصدقائه, يعدُّهم يجدهم كلهم حضور, إذا لماذا يشعر أن هناك ثمة نقص في عدد أصدقائه, لكنه يفتقده بفقد العبارة التي تعلو كل العبارات بمنطقيتها, أيضا عندما يلعبون ويفوز منهم من يفوز، لكن اللاعب الماهر الذي يفوز بجدارة وإتقان غائب لم يعد بيننا, في نزهاتهم يحضر كل الأصدقاء ومعهم كل الأدوات لكن روح القائد المتكامل ليست بينهم, هذا كله يفتقده, يتذكره حتى بعد أن خطف الموت صديقه منذ عشرين عاما, ألم أقل لكم إنها مجموعة قصصية تعلي الإنساني وتضع الذاتي في القلب من متنها.
أما قصة العنوان “مدينة ليس عليها صلاة” فلا أستطيع أن أصنفها كقصة, فهي وصف لمدينة دبي, يأخذنا الكاتب إليها فيطلعنا على جمالياتها ومتناقضاتها, ربما لا تتقيد بشروط القصة المعروفة, لكنه نص أنسنَ مدينة دبي, خاطبها كأنها امرأة جذابة طيعة لكن إذا ما جئتها وجدتها امرأة ليس عليها صلاة.
طبيعة القصة القصيرة جدا أنها جائعة للكلمات متخمة بالمعاني
تنأى بنفسها عن الابتذال اللغوي والحشو الحكائي, تهتم بالموضوعات الموغلة في الحياتية والذاتية والاجتماعية, تتكئ أحيانا على الرمز، كما في قصص: العصفورة الأولى، ونعاس ، والخاتم.
ففي العصفورة الأولى جعل من العصفورة الهاربة منه, ذلك الصيد الذي انفلت من يده رمزا للهزيمة الأولى أو الفشل الأول وما تتركه في النفس من حزن يبهت كثيرا مع تكرار الإخفاقات التي لم نعد نشعر بنفس الوخزة المؤلمة التي شعرنا بها مع أول فقد أو هزيمة بعدما تمرسنا على ذلك.
وكذا قصة الخاتم, التي تظهر لنا كيف يتعلق الإنسان بأشياء يرى فيها سعادته, ثم بتغير الأحوال والمآلات تصبح عبئا ضاغطا عليه, كالخاتم الذي تعلق به حتي امتلكه بعد عناء، تمتع به فلما تضخم أصبعه بفعل السن ضاق به, وبالملمح الإنساني الذي امتزج بطبيعة القصص يقول بطل القصة: “إني عندما نزعته حملته برفق بين إصبعين من أصابعي, ورفعته لأعلى, نظرت إليه ولم يرَني, همست له ولم يسمعني, حكيت له عن ألمي فلم يشعر بي, قبلته, ولم يبادلني القبلة, ودعته بحرقة ودعته إلى الأبد”.
وفي قصة نعاس, التي تحكي عن باحث كلما هم بتحضير اوراقه للابتعاث, أصابه النعاس, حتى مضت سنوات طويلة من عمره فأتى ليقدم أوراقه فكان الرد لقد تجاوزت السن ولم هذا النعاس ولم تعد صالحا لتلك البعثة , بعدما استهلك النعاس زهرة العمر, هذه القصة التي لم تتعد عدة أسطر إلا أنها بعثت لنا برسالة هامة, بكِّر بتحقيق ذاتك واغتنم فرصك المتاحة لأنه لو أغمضت عينيك ربما تفتحهما وقد فاتتك أثمن فرصك.
أما قصة “عاطل عن العمل” وهي آخر قصة في المجموعة, والتي طَلبَ مني أن اقرأها ونحن في معرض الكتاب فقرأتها وقمت بتحليلها له, فانبهر وقال لي: حللتها كما لم يحللها قارئ لها قبلك, ليتك تكتبين ما قلته الآن .وهي عن صحفي توقفت الجريدة التي يعمل بها, فطفق يبحث عن عمل, فكلما تقدم لوظيفة سألوه ماذا تجيد؟ يقول الكتابة أمارسها من خمس وعشرين سنة, فيقولون سنتصل بك ولا يحدث ذلك, فتدرب علي كتابة قصيدة النثر.
وكأن الكاتب يقول إن قصيدة النثر حرفة وليست موهبة, فقد دربه صديقه على كتابتها, لا ليصبح شاعرا ولكن ليطبع ويبيع, فكأنما يقول حسين الغامدي, أن قصيدة النثر هي الرائجة, رغم كون صديقه وصف القصيدة “بالركيكة ” فليس هذا مهما فهي في الأخير ستطبع وتباع , وحينما قال إن القصدة ركيكة, رد عليه الصديق قائلا: لن يعرف أحدٌ الفرق لن يعرف أحد الفرق , أي أن الذائقة هبطت فلن يميز المتلقي بين الشعر الركيك والشعر الجيد, في الأخير صفق الجمهور لكنه لم يشتر الديوان, وهذا أيضا يظهر انفعال الجمهور بأي كلام يسمعه, فهو يصفق مجاملة أو يصفق إعجابا, لكن أولويات الناس في الشراء بعيدة جدا عن شراء الكتب.
في المجموعة قصتان عن الصفع, الأولي بعنوان “لم يعد يصفعنا أحد” عن معلم جعل صفع تلامذته تسليته المحببة, أما الثانية فهي “صفعة أنثى”, هي صفعة من امرأة في عرس تجملت وتزينت, لكن قلبها لم يكن له نصيبٌ من هذا الجمال, حينما تناوش طفل مع ابنها, كان تصرفها التلقائي هو صفع من ناوش ابنها على وجهه بقسوة, يجمع بين القصتين أن بطليها لم يغادرا ذاكرتهما أبدا تلك الصفعات, وهكذا كل إهانة لا نستطيع نسيانها أبدا, فتلك المرأة كم تذكرها ذلك الطفل المصفوع ورد لها الصفعة صفعات في خياله, كلما تذكر صفعتها, أما معلمه فقد سامحه عندما طلب منه ذلك, بعدما قابله وقد أخذت منه الشيخوخة عنفوان وقسوة الصبا.
سعدت بقراءة تلك المجموعة القصصية, التي تميزت بلغتها السلسة الجميلة المتمكنة, وعباراتها المتينة المحتشدة, وموضوعاتها الإنسانية الحميمة, كما أعجبني ذكاء التناول ودهشة القفلات.
تحية للأديب السعودي الاستاذ حسين الغامدي وفي انتظار إبداعاته الجديدة.