“السبتيون” والرياضة في مدارس البنات
بقلم: عبدالعزيز قاسم
راج خلال الأسبوع المنصرم –وما يزال- في مجموعات “الواتس آب ” و “تويتر” مقطعا لمداخلة الدكتورة نوال العيد، أثناء استضافتي لها في حلقة ببرنامج “حراك” قبل أربع سنوات تقريبا، خصصناه للحديث عن “الرياضة في مدارس البنات”. رواج المقطع بالتأكيد جاء على خلفية إقرار وزارة التعليم في السعودية إدخال حصة للتربية الرياضية في مدارس بناتنا في ذات الأسبوع، بعد أن رفض مجلس الشورى إقراره بيوم واحد .
الذاكرة عادت بي إلى الزمن الجميل -لأزْيد من اثني عشر عاما- لملحق “الرسالة” بصحيفة “المدينة” إبان إشرافي عليه، حيث كان الملحق يسارع إلى طرح الموضوعات الجدلية والشائكة بين التيارات الفكرية إذاك، مستثمرا الحرية الإعلامية الكبيرة في عهد مليكنا الحبيب عبدالله بن عبدالعزيز -يرحمه الله- والتي بدأت من عهده. من ضمن ما طرحنا وقتذاك؛ موضوع “الرياضة في مدارس البنات”، إذ كتبت مقالة أدعو فيها وزارة التربية والتعليم إدراجها ضمن حصص الطالبات، وثار بعض طلبة العلم على تلك المطالبة، وفتحنا الموضوع كقضية واسعة، وشهدت سجالا حادا على صفحات الملحق، اتسم بالصراحة والجرأة من لدن أطياف المجتمع الفكرية، وكنا نحرص –كمنهج التزمناه- على فتح المجال لكل الأطياف أن تشارك.
الجميل في الموضوع أن دعاة كبارا، رأوا الحاجة إلى ادراج تلكم الحصة، وساقوا حججهم الصحية والنفسية والاجتماعية، وأتذكر تماما الشيخين الفاضلين سعد البريك ومحمد النجيمي، اللذين تحمسا للموضوع، فضلا عن بعض الدعاة والداعيات في مقابل ثلة من طلبة العلم والدعاة الذين لم يروا الحاجة لذلك، فيما تترّست بالفضلاء الذين رأوْا جواز تلكم الرياضة القضية، فهم شرعيون وأنا إعلامي، وأتذكر أن الساحة الدينية ضجت وقتها استنكارا على الموضوع، كأي موضوع يخص المرأة، حتى إن أحد الشيخين الفاضلين اتصل بي وقال: “حسبي الله عليك يا عبدالعزيز قاسم، فتحت عليّ بابا كنت في غنى عنه، فلم يهدأ جوالي مذ نشر رأيي، وغشاني الكثيرون في مسجدي وبيتي، يريدون عودتي عن الرأي الذي قلته”.
ما الذي دعاني لاعادة الكتابة في هذا الموضوع الذي أشبع نقاشا في صفحات الملحق وقتها، وبعد ذلك طرحته في برنامج “البيان التالي” بقناة “دليل”، وبرنامج “حراك” في قناة “فور شباب”؟
كانت الرسالة واضحة في موضوعات “رياضة البنات” أو “السينما” أم “المسرح” أم “قيادة المرأة للسيارة” وجملة تلك القضايا التي تشهد سجالات حادة: أيها الدعاة الغيورون على قيم المحافظة؛ المجتمع لن يصمد أمام هجمات العولمة اليوم، وما تُخترق به من أفكار وسلوكيات وقيم وافدة، والمسألة مسألة وقت، وإن لم تبادروا وتصوغوا تلكم النوازل برؤيتكم المحافظة، بدلا من الاستماتة في تأخير حدوثها فقط، فإنها ستصاغ برؤية غيركم من أخصامكم الفكريين، وتندموا وقتها ولات حين مندم.
الخطاب الشرعي الذي كان سائدا قبل أربعين عاما، أو حتى عشرين عاما، لا يمكن له أبدا أن يستوعب هاته المتغيرات والنوازل التي أمطرنا بها، وإن لم يكيّف العلماء وطلبة العلم الفقه المحلي وخطابهم ليتواكب مع الأحداث التي تتغير أحيانا في أيام، فإنهم سيظهرون أمام الأجيال الجديدة أن التيار الديني ورجالاته ضد العصر، وضد التطور والمدنية والمزاحمة الحضارية، وأنهم السبب في تخلف المجتمع عن اللحاق بالعالم المتحضر، وأنهم لم يقدموا للعالم إلا خطاب “داعش” و”القاعدة”، بما يضخ به يوميا ويكرسه الإعلام الغربي والعربي للأسف الشديد، وبات يؤمن به شريحة غير قليلة من أجيالنا.
أتذكر أن تلك المطالبات التي كتبتها –وغيري من المحبين ولا شك- في مقالاتنا، وتحدثنا عنها في الفضائيات، وما نادينا به من تطوير أدوات الفقه المحلي ليتواكب مع العصر، كان الرد علينا؛ الوصم –من قبل بعض الدعاة وطلبة العلم- أننا “سبتيون”، إشارة إلى يهود عندما تحايلوا على يوم سبتهم المقدس، وذهب آخرون لوصمنا بالمطالبين بتمييع الدين، ولا والله، فلم نرد إلا الخير، ودونكم وتفرّجوا حيال ما حذرنا منه، فبعضه يحصل اليوم أمام أعينكم ويفرض، فيما معارضاتكم تبددت لأنه لا يقوم -معظمها- إلا على “سد الذرائع” والخوف مما سيحصل مستقبلا، وهي الحجة التي لن تصمد في حاضر الآن، لأننا لو طبقناها على سائر ما نعيشه في مظاهر حيواتنا اليومية، فلن يستقيم لنا شيء، فهي سنة كونية تقول بأن كل سلوك إن تمادينا فيه، وتجاوزنا فيه معايير الشرع؛ سينعكس.
ها أنا أكرر تلك الدعوات التي قلنا بها قبل ثمانية عشر عاما، بعدم الوقوف ضد متطلبات المجتمع التي بات بعضها حقا، تحاسبنا عليه منظمات حقوق الانسان والمرأة والحكومات الغربية، وتضغط على دولنا في هذا الوقت العصيب، بل العقل في المسارعة لتكييفها بقيم المحافظة والشرع، وأن الإصرار على الوقوف والتنديد والصراخ الذي كنا عليه من سنوات عديدة، لن ينفع اليوم كثيرا، ودونكم -مثالا في صوابية ما نطالب- مدارس تعليم البنات، عندما تقدم علماء ذلك العصر قبل أزيد من خمسين عاما، ووضعوا ضوابطهم على تعليم البنات بدلا من الممانعة والانصراف، وضبطوا المسألة وغلفوها بمعاييرهم؛ مضت واستمرت ليومنا هذا.
الآتي من النوازل والمدلهمات التي ستخترم مجتمعنا وأجيالنا أدهى وأمرّ، ومن العقل تكييف معظمها بقيم مجتمعنا لا رفضها مطلقا، وسيرورة التاريخ البعيد والقريب للبلدان حولنا تقول بالفشل الأكيد للمعارضة المطلقة.