“خدعوها” !! قصة شعرية شوقية.. محمد خضر الشريف
من كتابي:
“القصة الشعرية في تراث العربية”
(تحت الإعداد)
محمد خضر الشريف
=======
مدخل/
((أُشبِّه القصة الشعرية بالقصة الخبرية -عندنا أهل الصحافة- يحتاج صاحبها أن يرسم بريشته ملامحها، في لغة سهلة، وحبكة فنية في الطرح؛ لتوصيل المعلومة الخبرية، مباشرة، وبسرعة وبمهنية.. ولا تقل اللوحة الشعرية في ذلك عن اللوحة الخبرية وإن كانت الأولى سابقة تاريخا وقدما عن الثانية،إلا أن هناك عوامل مشتركة بينهما، وأوجه شبه وثيقة الصلة ، ولعل هذا الكتاب يوضحها بنماذجه العديدة من روائع القصص الشعرية قديما وحديثا))
النموذج:
وإليكم هذا النموذج -وهو من أدب العصر الحديث- الذي يقول فيه صاحب هذه الأبيات- من بحر الخفيف- التي لها مغزاها ومعناها في نفسه، وتركت، بلا شك، معاني جزلة في نفوسنا، سامعين وقارئين لها:
خَدَعوها بِقَولِهِم حَسناءُ/ وَالغَواني يَغُرُّهُنَّ الثَناءُ
أَتُراها تَناسَت اسمِيَ/ لَمّا كَثُرَت في غَرامِها الأَسماءُ
إِن رَأَتني تَميلُ عَنّي/ كَأَن لَم تَكُ بَيني وَبَينَها أَشياءُ
نَظرَةٌ فَابتِسامَةٌ فَسَلامٌ/ فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ
فَفِراقٌ يَكونُ فيهِ دَواءٌ/ أَو فِراقٌ يَكونُ مِنهُ الداءُ
يَومَ كُنّا وَلا تَسَل كَيفَ كُنّا / نَتَهادى مِنَ الهَوى ما نَشاءُ
وَعَلَينا مِنَ العَفافِ رَقيبٌ/ تَعِبَت في مِراسِهِ الأَهواءُ
جاذَبَتني ثَوبي العصِيَّ وَقالَت/ أَنتُمُ الناسُ أَيُّها الشُعَراءُ
فَاتَّقوا اللَهَ في قُلوبِ العَذارى/ فَالعَذارى قُلوبُهُنَّ هَواءُ
الشاعر:
أمير الشعراء أحمد شوقي
قائل هذه الأبيات الشاعر ” أحمد شوقي بك”، أمير الشعراء، في العصر الحديث، بلا منازع، وشاعر الملوك ، وشاعر النيل أيضا وإن كان اللقب الأخير أطلق على معاصره ومساجله ومناغشه شعرا، وصديقه ومبايعه بـ”إمارة الشعر”وأعني به الشاعر الفذ “حافظ إبراهيم”. وأحمد شوقي المولود 1868م والمتوفى 1932م في القاهرة، هو الشاعر الفحل الذي أعاد للعربية رونق شعرها الفصيح، في كل مناحي الشعر مدحا وحكمة وهجاء ورثاء ووطنية وتدينا، ومسرحيات وحكايات وقصص وروايات، في قصائده التي عدها العادون بثلاثة وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت، ولعل هذا الرقم لم يبلغه شاعر عربي غيره، قديما أو حديثا، وهي قصائد التي تناطح السحاب علوا وتجاوز طبقات الفضاء سموا وسموقا، وحق لشعراء عصره وما بعد عصره أن يضفوا عليه لقب ” أمير الشعراء”.
وليس من نافلة القول أن أوضح أن شعر شوقي لم الذي حضره في ديوانه “الشوقيات” بل تعدى ذلك بأن قام الدكتور محمد صبري السربوني، بجمع الأشعار التي لم يضمها ديوانه، وصنع منها ديوانًا جديدًا في مجلدين أطلق عليه “الشوقيات المجهولة”.
ولعل شوقي بإنتاجه الغزير لم يترك لونا من ألوان الشعر إلا وأجاد فيه وترك لنا ذخائر شعرية، لم يفرِ شاعر قبله ولا بعده فرْيه،ولم يأت أحد مثله، منها المسرحيات الشعرية والقصص الشعرية التي استنطق فيها ألسنة الطير والحيوانات ليصب لنا القصة الشعرية في قالبها المناسب إن تدينا فتدينا أو وطنية فوطنية، أو سخرية فسخرية. ولعل قصائده التي اشتهرت عنه في أمور الدين مثل “إلى عرفات الله ياخير زائر ” أو “نهج البردة ” أو “الهمزية” جعلته من أوائل من يستشهد بهم وبشعرهم في هذا المنحى الديني الجميل والرقراق في ألفاظه ومعانيه.
تبرئة لساحة شوقي
الشيخ الشعراوي
قد يلوم البعض على شوقي مطلع قصيدته “رمضان ولي هاتها يا ساقي”، وقد سمعت وقرأت للبعض يلوم الرجل ويقدح فيه ويتهمه بشرب الخمر وأنه وأنه… لكن لدراستنا لشوقي وأدبه الراقي وتدينه الجميل تجعلنا تستبعد هذا كله عنه، ظنا ويقينا، أما الظن فكما ألمحت إلى أن شعره لم يكن فيه عربيدا ولا سكيرا ولم يبح فيه باسم الخمر صراحة أو كناية..
وهذه التي قالها فسرها هو ولندع رجلا ثقة لدى الأمة الإسلامية كلها وهو فضيلة الشيخ محمد متولي الشعراوي –رحمه الله- وهو شاعر فحل سمعت منه قصائد وطنيه في بيته قبل موته في التسعينات قالها في الأربعينات والخمسينات الميلادية كأنه يقرأها من كتاب.
يحكي الشيخ الشعراوي قائلا :إنه في صدر شبابه كان يحفظ شعر شوقي كله وكان شغوفا به وكانت هذه القصيدة تستوقفه كثيرا وتجعله يعيب على شوقي هذا حتى ذهب إليه مسلما مع مجموعة من الشباب فاستقبلهم وقال فيه الشعراوي كلاما مادحا إلا أنه قال نعيب عليك هذه القصيدة. فكان رد أمير الشعراء:أتحفظ القرآن؟ قال الشيخ :نعم أحفظه. فقال له ماذا تقول أخر سورة الشعراء؟ فتلاه الشيخ عليه :{والشعراء يتبعهم الغاوون* ألم تر أنهم في كل واد يهيمون*وأنهم يقولون ما لا يفعلون}. فقالها شوقي: صدق الله العظيم “يقولون مالا يفعلون”، هذا ردي عليك.
وانشرح بال الشيخ الشعراوي ومن معه من طلبة الأزهر وشباب الشعراء والحضور أن كشف الله الغمة؛ بتفسير وتأويل شوقي لما حاك في صدور الناس من محبيه ومتابعيه أمام تلك القصيدة.
الكل أجمع على احترامه
بما فيهم زعماء وطنيون مثل مصطفى كامل وسعد زغلول وشخصيات المجتمع وشعراؤه ومثقفوه ورواد الفكر والفن فيه. ولعل الصور التذكارية لتلك الشخصيات معه خير دليل على ذلك.
أحمد شوقي مع الزعيم سعد زغلول
ولا يغيب عن متابعي شعر شوقي قصائده الوطنية الفذة أو مراثيه المبكية، ولعل أشدها حزنا وألما ما كتبه في صديقه الشاعر والزعيم الوطني مصطفى كامل، الذي تشعر أن كلمات شوقي في رثائه هي التي تبكيه لا صاحبها، ويكفيك المطلع الذي يقول فيه:“المشرقان عليك ينتحبان” !
مصطفى كامل
وفي رأيي لو اكتفى شوقي بهذا المطلع القاهر القوي المبكي لأغناه عن أشطر وأبيات قصيدته كلها.
قصة الأبيات:
أما قصته الشعرية التي بين أيدينا فمطلعها وحده يوحي بأن هناك قصة، وقصة ذات مغزى، بل إن الكلمة الأولى من المطلع”خدعوها” تأخذك أخذا، لتعرفك أنك أمام شاعر، ليس ككل الشعراء؛ إذ أوحت الكلمة وحدها بقصة، طرفها فتاة وآخرون يصبون في أذنيها الكلام الخادع، وهي تصدقهم وانطلى عليها الخداع فأصبحت مخدوعة.. ولعل شوقي وضع يده على الجرح ، فالفتيات كلهن إلا من رحم ربي، ينخدعن وبسرعة كبيرة من إطلاق الأوصاف عليها، وإن كانت تلك الأوصاف ليست حقيقية مثل أنها حسناء أو جميلة أو أو..
وهو يجلي لنا تلك الخدعة في صورة بطلة قصته هنا. ثم يكمل جملته” بقولهم “حسناء” ليوضح لك كنه هذا الخداع، وهو خداع لفظي فقط، وليس خداعا فيه خبث ومكر وتعدي على مايمس شرفها وعرضها. ثم يأتيك باللفظة الأخرى “والغواني” -جمع غانية- وهي المرأة التي تستغني بحسنها وجمالها عن التزين، ولا يقصد هذا الغانية أي الراقصة في الملاهي، كما يحمل المعنى الآخر للكلمة نفسها. والسؤال في البيت الثاني فيه لهفة المحب وهذا مايتخيله شوقي مع فتاته في قصته حتى إنه يسأل مستنكرا في صورة استفهام هل نسيت اسمه لكثرة الأسماء التي وقعت في غرامها.؟
أشياء !!
أما كلمة “أشياء” في بيته الثالث، فقل فيها ما يجنح إليه خيالك من حب وعشق وربما لقاء وربما أشياء أخرى عف شوقي عن ذكرها صريحة فترك الكلمة النكرة هنا تسرح بخيالك وتمرح.. ولا يخطرن ببالك أن هذا حدث واقعا مع شوقي؛ لأن القاعدة التي بنى عليها منهجه الشعري واضحة “يقولون ما لايفعلون” كما كان استشهاده في رده على الشعراوي وذكرناه آنفا.
الشاهد الذي لم يمت
نَظرَةٌ فَابتِسامَةٌ فَسَلامٌ / فَكَلامٌ فَمَوعِدٌ فَلِقاءُ
البيت الرابع هذا “جمع فأوعى”، لفظا ومعنى، وترتيبا منطقيا، لم يسبق شوقي فيه سابق ولا أتى بمعناه بعده لاحق؛ حتى إنه صار حكمة يستشهد بها صنفان من الناس ،أهل الحب والغرام في ترتيب الخطوات مع المحبوبة، و أهل التدين والورع في التحذير من الأمر الصغير في العلاقة بين الرجل والأجنبية عنه، حتى لا يصل بهم الأمر الصغير إلى الكبير الجلل.
مجاذبة!!
وسأتجاوز بييتيه الأخيرين، لألج إلى البيت ما قبل الأخير، الذي صور فيه مشهدا أخاذا بلفظة “جاذبتني” وانظر إلى فعل المشاركة هنا وفيه المراودة منها ثم الاستعصام منه، ثم لفظة ” ثوبي العصي”، كأنها تراوده عن ثوبه ـ غير أن ثوبه ليس عفيفا فحسب، بل عصيا عن تلك المراودة والمجاذبة منها، وهو يكني عن الثوب بلابسه أي نفسه.. ثم هي تغريه بكيل المدح له بل وللشعراء جميعا وأنهم هم الناس فقط وانظر لفظة ” أيها الشعراء” وهو تضمين يوضح وصف شوقي لنفسه أنه “شاعر” على غير ما هو معروف أن الشعراء الحقيقيين لم يكونوا يصفون أنفسهم بأنهم شعراء.
حكمة مغلفة
ثم يختم شوقي القصة الشعرية على لسان بطلة القصة بتلك الحكمة المغلفة: ” فاتقوا الله في قلوب العذاري”؛ ويبرر هو أيضا على لسانها هذه الدعوى بتقوى الله في قلوبهن تبريرا منطقيا وحكيما حيث يقول:” فالعذارى قلوبهم هواء” أي خاوية فتتعلق سريعا بكلمات الغزل وينخدعن سريعا بمعسول الكلام.
خاتمة:
أرأيتم كيف صور شوقي القصة الشعرية بمشاهدها السريعة المتسائلة تارة والمجيبة تارة أخرى والمستنكرة أحيانا والموحية بأشياء وأشياء أحايين أخرى، في بضع أبيات( تسعة أبيات) سهلة مرنة جزلة، تتراقص كلماتها طربا، أغنت عن رواية طويلة عريضة، يرويها صاحب النثر في عدة صفحات، لتصل بنا إلى ما وصل إليه الشاعر سريعا جدا في أبياته الجميلة الشديدة العذوبة.