رسالة من القلب: قوتنا في هويتنا
بقلم – د. فهد صالح عبدالله السلطان:
من المسلمات التي يشهد بها التاريخ أن كل وطن قوي وفاعل له مسار حضاري يسير عليه ومرتكز قوة رئيس يستمد منه خصوصيته ومكانته. فهناك من الدول من تستمد قوتها وكيانها من قدراتها العسكرية والاقتصادية (الولايات المتحدة على سبيل المثال) وأخرى تستمد مكانتها من نظامها السياسي المبني على التعددية والديموقراطية (دول غرب أوروبا والدول الإسكندنافية على سبيل المثال) وثالثة تستند في مكانتها على قدراتها الاقتصادية والإنتاجية وما تضيفه لمجتمعها وللمجتمع الدولي من إنتاج ذي قيمة (اليابان والصين) ورابعة على برامجها التنموية البشرية وقدراتها التقنية والإبداعية (كوريا الجنوبية وسينغافوره). أما نحن فقد تم بناء دولتنا على أساس متين وقوي وهو الدين وتبنيه كمنهج لحياتنا.. خاصة وأن بلدنا هي مهبط الوحي وقبلة لثلث سكان العالم. وهو أمر أعطى لهذا البلد مكانة وهيبة وخاصية فريدة لا يملكها أحد سواه ولم ولن ينافسها فيه أي بلد إلى أن تقوم الساعة ويرث الله الأرض ومن عليها. وقد أصّل هذا المفهوم الملك عبدالعزيز غفر الله له عند بنائه لهذا الكيان العظيم وذلك لقناعته بأن الدين هو العامل الرئيس في توحيد الأمة، وأكد عليه الملك سلمان في أكثر من مناسبة.
يقول السيد غلن بيك وهو من أشهر الكتاب والمحللين السياسيين الأمريكيين ومن كبار مذيعي الفوكس الأمريكية: إن قوة الشرق الأوسط لا تعود للنفط ولا للثروة التي لم ولن تساعد الأمم المادية على البقاء ولكن قوتهم تكمن في الإيمان (faith )، في الإسلام الذي إن تبنوه فلن تستطيع قوة على وجه الأرض أن تتطاول عليهم.
ولذا فإن قوتنا وتقدمنا واستقرارنا يعتمد بشكل رئيس على مدى قدرتنا على المحافظة على هذا المرتكز وتعزيزه والافتخار به، وإعلان سموه على كافة شؤوننا وبرامجنا التنموية. وعدم المغامرة أو المساومة أو التفريط في أي مقوم من المقومات والقيم الاجتماعية المستمدة من الدين مهما تناهت في الصغر لأن التفريط فيها تفريط في مكون من مكونات الهوية الوطنية. وبالتالي فإن من الحكمة المحافظة على الموروثات الاجتماعية المستمدة من الشريعة حتى وإن كانت في ظاهرها أمور ثانوية. المحافظة عليها وتأصيلها هنا ليس لأنها جزء من الدين بل لأنها مكون من مكونات الهوية والعزة والقوة والمكانة التي اختصنا بها الخالق. وهذا لا يعني بأي حال من الأحوال قبولنا للتطرف الديني أو إقراره أو التعامل مع من يعتنقه. بل إن من واجبنا نبذ التطرف وتبيان أنه خارج عن الهدي النبوي وأن ديننا بريء منه. فقد أصبح – أعني التطرف- مدخلاً للطعن في معتقدنا وفي مصدر قوتنا.
جميل أن يكون لنا شخصية مستقلة ومهيبة في وقت ازدادت فيه الصراعات ومحاولة فرض الاستعلاء والقوة والتناحر الإقليمي والدولي. البعض ركب موجة الطائفية والمذهبية والآخر ركب سفينة القوة وفرض نفوذه العسكري وذاك رفع شعار نشر الديموقراطية والتعددية…الخ. نعم، خصوصيتنا الدينية هي السد المنيع بعد الله ضد أي محاولة للتطاول علينا أو انتقاص حقوقنا.
الذي شدني لكتابة هذا المقال هو ما لاحظته في الآونة الأخيرة من محاولة البعض ربط التحضر والتقدم الحضاري في محاكات بعض المجتمعات المدنية وميل البعض إلى التخلي عن بعض الموروثات الاجتماعية ذات الأصل الشرعي. وكأننا نريد أن ننافس الحضارات الأخرى في مساراتها ونقاط القوة لديها ونتخلى بطوع إرادتنا عن مسارنا الخاص ومكمن قوتنا وعزتنا.. وهو اتجاه خاطئ يكتنفه كثير من الضعف بل والغموض!!. لأن ذلك أشبه ما يكون بمن يدخل مضمار سباق تقدم فيه آخرون بمئات الأميال ويترك مضماره الذي حقق فيه السبق على غيره. ما الذي سنكسبه عندما نلتحق بميدان المنافسة الحضاري لمدينة دبي أو بيروت أو ضاحية هوليوود….الخ؟ فعلى سبيل المثال،المتتبع لما تبثه بل وتروج له بعض القنوات الإعلامية المحسوبة على المملكة يلاحظ أن نهجها الإعلامي يصب في اتجاه معاكس لهويتنا ومصدر قوتنا.
نعم نحن مجتمع فاضل، مجتمع سليم، نمقت الإباحية والفحش ونكره الرذيلة ونحب الاستقامة ونأمر بالمعروف وننهى عن المنكر، وسنظل على ذلك مهما وصمنا فيه الأعداء في الخارج أو نعتنا فيه المنهزمون في الداخل.إذا كان البعض يرى أن هذا تخلف فلن يضرنا من ظل إذا اهتدينا. إذا كان هناك من ينظر إلى أن ارتداء المرأة الغربية للعباية عند دخولها السوق السعودي – على سبيل المثال- يمثل مظهر تخلف لمجتمعنا فإنني أنظر إليه على أنه مؤشر عزة وخصوصية لمجتمعنا ومظهر حضاري لوطننا.
من المخجل حقا أن يتنافس بل ويتفاخر البعض من أطياف المجتمع على إعلان التساهل في بعض الشعائر الدينية في وقت كان الأولى بنا أن نتفاخر بتمسكنا بها مهما صغرت ذاك لأنها مصدر عزنا وقوتنا.
عندما كنت أحاضر على طلبة الماجستير في جامعة University of Houston Vic toriaفي الولايات المتحدة سألني أحد الطلبة: ماهو مصيركم عندما ينفد النفط أو تتراجع قيمته.. توقفت قليلا قبل أن أجيب فأجاب أحد زملائه بأن هؤلاء «حكموا ثلث الكرة الأرضية في وقت لم يعرف العالم فيه شيء يسمى بالنفط. لقد حكموه بالإيمان والاستقامة على الحق لم يكن لديهم وقت للغناء والرقص والرذيلة». كتب أحد الكتاب الخليجيين مقالا منذ عدة أعوام يشيد فيه بالخصوصية التي اكتسبتها المملكة جراء تمسكها بالشعائر الدينية والمحافظة عليها، وتخليها عن تفاهات الحضارة المدنية. ذكر المفكر الإسلامي الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله عندما قدم إلى المملكة ما معناه « وجدت الإسلام» تحدث فيه عن الشعور الروحاني الذي يجده الزائر للمملكة والذي ينبع من الخصوصية التي تميز هذا البلد عن غيره نتيجة لتمسكه بالشعائر الدينية صغيرها وكبيرها. وللأمانة التاريخية فإن أعظم شيء يجذب انتباه الزائرين للمملكة هو البيئة الاجتماعية الفريدة والروحانية البعيدة عن صخب الحياة وتفاهاتها التي أعطت لهذا البلد خصوصية لم يجدها الزائر في بلده ولا في كل البلاد التي قام بزيارته. بعد أن أنهى السفير الأمريكي لدى المملكة عمله في الثمانينيات الميلادية قال وبعد تجربة اجتماعية طويلة إنه يتمنى تربية أبنائه بهذا البلد!
والقول الفصل في هذا لملك الملوك جل شأنه: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُور .
خذوا هذا الوعد ممن يملك تحقيقه : وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ……الخ الآية أي وعد أعظم من هذا!!!
جربت تركيا العلمانية ومحاولة إرضاء القوى المادية لأكثر من تسعين عاما ولم ترض شعبها ولم يرض عنها خصومها.. وأخيرا رجعت لمحاولة إعادة الخلافة. لم تفكر إيران أبدا في تصدير القومية الفارسية رغم تاريخها العريق بقدر ما تحاول تبني شعار الإسلام وحمل رايته وتحاول أن تستمد قوتها منه، وهي لا تملك منه إلا الاسم. نحن في هذا البلد الكريم لسنا بحاجة إلى محاولة أو تبني أو دعوى.. نحن بيت الإسلام ومهده ومنشأ رسالته.. هذه قوة ومكانة لا تضاهيها قوة.
والله لن يهابنا الآخر ويضرب الحساب قبل أن يحاول النيل منا أو التطاول علينا لأجل ثروتنا أو لانفتاحنا على حضارتهم وتبني ثقافتهم بنسختها الأصلية، ولكن لاستقامتنا ولتمسكنا بقيمنا وشعائر ديننا الراسخة واعتزازنا بها وإعلانها ولزعامتنا للأمة الإسلامية ولثلث سكان الكرة الأرضية، فذلك وربي أقوى ورقة في جعبتنا! فهل نعي ذلك جيدا؟
وللتذكير، فإن هناك فرق بين رضى الآخر عنك ومهابته لك. فهو يرضى عنك عندما تتبع ملته وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ فاتباع ملتهم يحقق رضاهم. ولكن ذلك لا يعني مهابتهم لك. فالهيبة مربوطة بالقوة وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ والقوة هنا – والله أعلم – قوة حسية عسكرية وقوة ناعمة معنوية تتضمن الاستقامة على الحق والتمسك بالمبادئ والقيم، وقوة العلم والإبداع والإنتاج والسلاح…الخ.
كنت أتمنى محاكات المجتمعات المتحضرة في العلم والإنتاج والإبداع والانضباط بمفهومه العام ( Discipline)، لا في توافه الأمور التي تقضي فيها تلك المجتمعات وقت فراغها.
وباختصار أعتقد أنه ليس ثمة مهدد آخر سواء أكان تراجع أسعار النفط أو حتى عدو داخلي أو خارجي أخطر على هذا الكيان من التنازل عن أي من قيمه أو شعائره أو مسلماته الدينية مهما صغرت! وبالمقابل فإنه ليس ثمة مرتكز أقوى رسوخا وعزة من الدين والتمسك بشعائره.
الشيء الذي يدعو إلى التفاؤل هو أننا نعيش فترة تاريخية يقودها رجل قوي الإيمان وينفذها شاب طوح قوي الهمة.
ولذا فإنني أرى أن هناك ضرورة ملحة للتوقف قليلا ومراجعة المسار فنحن أحوج ما نكون لتعزيز مواطن القوة لا للتفريط فيها. إن أردنا مدد السماء فعلينا بنصرة الله في أرضه إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ .. إن نحن أردنا الهيبة والمكانة والعزة فعلينا أن نعلن ونتباهى بالتمسك بقيمنا الدينية ونؤصل خصوصيتنا أمام القريب والبعيد، ونمارسها قولا وعملا. فالعزة كلها في معية الخالق العزيز لا المخلوق الذليل «إن العزة لله جميعا»!.