زمن الطيبين

بقلم – محمد البكر :
كنت أعتقد بأن من يتحدث عن الماضي الذي عاشه في صغره ، أو حتى في شبابه ويحن إليه إنما هو يهرب من حاضره . مثله مثل التاجر الذي ما أن يفلس حتى يعود لدفاتره القديمة ، فلعله يجد فيها ما يعيد له توازنه . لكن لم يكن اعتقادي في محله . فرغم ما شهدته حياتنا من تطور وتسهيلات ووسائل ترفيه ، إلا أنه وبمجرد التفكير في ذلك الزمن ، تنتابنا حسرة على تلك الأيام الجميلة .
كنت أؤومن بمقولة ” لكل زمان دولة ورجال ” . لكني أكتشفت في لحظة تأمل ، بأن هناك ذكريات لا تنتهي بانتهاء رجالها وحاراتها وبيوتها . تلك الذكريات لا تموت ، كما لو كانت لها قلوب لا تزال تدق ، ودماء لا تزال تنبض بالحياة .
زمن كانت فيه الحارة أشبه ببيت كبير ، وكان الجيران فيه كعائلة واحدة . تربطهم النخوة والستر فيما بينهم ، والغيرة على أطفال بعضهم البعض .
كان الجار يعرف متى عاد أبن جاره من المدرسة ، ومتى مرضت أبنته ، ومتى وماذا طبخت زوجته أو أمه . لم يكن هناك مواعيد للزيارة ، ولا رسائل للإستئذان . كان الباب يُطرق بقوة محبة ، فالمجلس كما يقال ” بساط أحمدي ” .
كانت القلوب غنية ، والنفوس قوية ، والقناعة كانت عنواناً للسعادة . كل شيء كان بسيطا . وكانت لعبة من خشب يصنعها الكبير للصغير ، قصة يتناقلها الأطفال في تلك الحارة . لم يكن هناك إزدحام في الشوارع ، بل ازدحام في الأرواح وأمتزاج في علاقاتها . نلعب الكرة حفاة في أزقة ضيقة أو في ساحة لم تُبن بعد . نلعب وكأننا ملكنا الدنيا كلها .
كنا ننام في سطوح على فراش مشبع برطوبة قاتلة ، نضع رؤوسنا على مخدات كاللوح الخشن ، فننام قريري الأعين ، كما لو كنا في فنادق فاخرة .
زمن الطيبين كان فيه الناس يتسامحون بكلمات بسيطة ، ينسون خلافاتهم ، يفتحون قلوبهم مهما كانت ظروفهم .
لسنا ضد التقدم والإستفادة من التطور الذي نشهده في كل فصول حياتنا . ولسنا نكابر ضد كل الإختراعات التي سهلت حياتنا ، والتي لا نتصور أنه يمكن العيش بدونها . لكننا بحاجة لإستحضار القلوب الطيبة ، والنفوس المتصالحة ، والبساطة المفقودة . نحن بحاجة لعودة الروح للحارة وللجيرة . للقناعة ، للتسامح ، للمحبة التي أصبحت أسيرة للمصالح .
نعرف جميعاً بأن ذلك الزمن لن يعود ، لكننا نستطيع أن نحييه في سلوكنا .. في بيوتنا .. في جيراننا .. في قلوب أطفالنا . ولكم تحياتي




