الأجهزة الذكية والرسائل الخفية
د. محمد يونــس *
لو اجتمعت سيدتان أو رجلان مصريان او أكثر فى اى مكان لدار بينهم حوار، بغض النظر عن وجود معرفة سابقة بينهم،
وهذه إحدى سمات الشخصية المصرية وربما أحد أسرار التماسك الاجتماعى على أرض الكنانة، ولكن هناك من يرى فى هذه الميزة «وجع دماغ» ويطالب بالكف عن هذا التواصل الإنسانى لصالح العزلة والانكفاء على «الموبايل» وغيره من الأجهزة الذكية، مقابل «باقة لمصلحة التكاليف» تجعل الإنترنت تسرقك من محيطك حتى لو كنت جالسا مع اصدقائك أو على مقهى أو مستقلا حافلة عامة!
هذا فحوى إعلان يبث طوال اليوم على الفضائيات، بينما يجسد إعلان آخر كمية القلق التى يشعر بها شاب عند اكتشافه أنه يكلم نفسه، مصدر القلق ليس لأن اصدقاءه انشغلوا عنه بالانترنت عبر هواتفهم الذكية، وإنما لأنه لم يشترك فى باقة موبايل انترنت أخرى تمكنه من فعل الأمر ذاته!
إعلان ثالث يدفعك إلى الانسلاخ تماما من محيطك على طريقة «تخلص من حمامك القديم» حيث يهاجم حميمية الحارة المصرية التى جسدها نجيب محفوظ فى روايته العديدة وأعاد اكتشافها جمال الغيطانى فى تجلياته المتلفزة، بينما يحولها الإعلان الى سلبيات ويدعوك إلى هجرتها إلى «كمباوند» تروج له شركة عقارية.
باختصار مصر أصبحت وفق خطط التسويق والترويج، مقسمة إلى جزءين، الأولى يسكنه الفقراء حيث تدعوك الإعلانات إلى التبرع لشراء ما يلزمهم بدءا من شنطة رمضان وحتى بطاطين الشتاء مرورا بمصاريف التعليم وتوصيل المياه النقية، أو للمساهمة فى علاجهم، والثانى يسكنه الأغنياء فى الكامباوندات او المنتجعات السياحية،حيث تدعوك الإعلانات الى الهرب من الجزء الأول إلى العيش فى الثانية بشروط ميسرة وتقسيط مريح على 6 سنوات.
وفى الوقت التى تربك فيه أزمة الدولار الميزانيات العامة والخاصة للدولة والأفراد وترتفع الأسعار بسبب الاعتماد على استيراد حاجيات كثيرة وكماليات أكثر، نجد الإعلانات تدفع إلى المزيد من الاستهلال والتبذير فى أمور ثانوية، على سبيل المثال ينفق المصريون أكثر من 40 مليار جنيه على الكلام عبر الهواتف سنويًّا، ونحو مليار جنيه على ياميش رمضان، وتخصص الأسرة ما يقرب من خمس ميزانيتها السنوية للإنفاق فى شهر الصيام بعد ان حولته الإعلانات الى موسم للطعام.
أما الترويج للسلع الغذائية غير الصحية فحدث ولا حرج. نعم الإعلانات لا تجبر أحداً على الشراء ولكنها تحفز على الإسراف فى الوقت الذى يتطلب فيه وضع البلد الاقتصادى نوعا من التقشف، حيث تدعو القيادة السياسية الى شد الحزام، ومن ناحية أخرى فإن الإلحاح المكثف على الاستهلاك والترويج المستمر له يْوجد ثورة تطلعات، تتبعها ثورة احباط لدى غير القادرين وهم كثيرون.
لا ننكر أهمية الترويج لدوران عجلة الإنتاج، لذا فمن المستحيل منع الإعلانات، ولكن لا يمكن أيضا قبول هذه الفوضى الإعلانية التى تخصم من رصيد المجتمع القيمى وتفتت تماسكه وتزيد من الأحمال على عاتق الغلابة.
كثير من الدراسات حذرت مرارا من الآثار السلبية للإعلانات بخاصة على الأطفال، ولكن التطور النوعى فى محتوى هذه الإعلانات وبخاصة التليفزيونية زاد من خطورتها بعد ان استعانت بفنون الدراما فى تحقيق أهدافها، فلم تعد مجرد ترويج لمنتج من خلال إبراز ايجابياته ومميزاته، وإنما أصبحت اشبه بعمل فنى مركز يبث بجانب الترويج، رسائل أخرى خفية.وصارت المضامين غير المباشرة التى تشى بها الإعلانات أخطر من رسائلها المباشرة!
وباتت تؤثر أكثر فى ثقافة وسلوك الكبار قبل الصغار، وبخاصة زعزعة القيم وزرع عادات دخيلة، من خلال الضغط المستمر على ذهنية المشاهد بشكل يزيف الوعي، فينحصر التحدى فى نوع طعم السمنة الصناعى ويقتصر عيش اللحظة على تناول مشروب غازي، أجمعت بحوث كثيرة على ضرره الشديد بالصحة، وفى وقت سابق ربطت الإعلانات تحقيق أحلام الجمهور بالفوز بإحدى الجوائز المعلن عنها، واليوم ترهن إعلانات أخرى السلبيات فى محيط المنزل أو العمل بـ «الأكشن» الذى يحدثه نوع السيراميك او جهاز التكييف، فضلا عن بعض الإعلانات تحتوى على مفردات وعبارات تهبط بالذوق العام.
وهكذا تحول الرسائل الخفية للإعلانات، المتلقى الى زبون مسطح ليسهم بفاعلية فى رفع أرقام المبيعات وخفض أسهم القيم الأصيلة!
وأصبحت القيم السلبية التى تحملها بعض الإعلانات تتعدى الفضائيات الى مواقع مهمة فى مختلف بقاع الدولة، وكلنا يذكر سخرية الدكتور احمد زويل من ذلك حينما قال: فى طريقك لمطار اليابان تجد لوحة إعلانية مدون عليها عبارة «فكر لتبدع» أما وأنت فى طريقك لمطار القاهرة فستجد لوحة إعلانية لتناول نوع من الشيبسى لتصبح فى حالة «أكبر وسيطر» وأخرى لشرب مشروب غازى لكى تسترجل!
إذا كان مشروع تنظيم «الصحافة والإعلام» الذى وافق عليه مجلس الوزراء، وسيعرض على مجلس النواب، قد يحمل الأمل فى السيطرة على فوضى الإعلام، فهل ننتبه إلى شيء مماثل يتعلق بفوضى الإعلان؟
- نقلا عن “بوابة الأهرام”