مراكز الدراسات الإستراتيجية السعودية (1)
جاءت أولى محاولاتي للكتابة في موضوع مراكز الدراسات الإسترتيجية، من خلال مقالة نشرت في صحيفة «اليوم» في 19 مايو 2004، جريدة اليوم، الصحيفة التي تشرَّفت بالكتابة فيها لمقالة أسبوعية دامت لسنوات، ولفترتين. لقد لاقت المقالة المذكورة الكثير من الترحاب والقبول بين الأكاديميين والمثقفين السعوديين، ومع أن وسائل التواصل الاجتماعي لم تكن آنذاك كاليوم، إلا أنني تمكنت من التعرّف على رؤى البعض، من خلال فاكسات واتصالات هاتفية وغيرها.
كنت أعمل وقتها في معهد البحوث في جامعة الملك فهد للبترول، الذي كان يرأسه أحد الأكاديميين المبدعين بحثاً وإدارة وتميزاً وخلقاً، هو الأستاذ الدكتور عبدالله بن عيسى الدباغ، وبإشراف من معالي الأخ الأكبر الدكتور بكر عبدالله بن بكر، الذي تُنسب له تلك الجهود المضنية والعمل الدؤوب الذي بذله، ولسنوات تبلغ الثلاثين عاماً، تأسيساً لذلك الكيان العلمي الرفيع. وقد كانت الجامعة حينئذ تخطط للتأسيس لمركز للدراسات الإستراتيجية، كأحد محاور عمل معهد البحوث الستة.
وبما أن الشيء بالشيء يذكر، فإن الكاتب لا ينكر البتة، أن هناك من التنفيذيين الذين كان لهم دور بارز في البداية سواء كان ذلك في بداية تأسيسي الكلية أو استكمال ما جاء به الدكتور بكر إلى الجامعة، وسيأخذ كل منهم حقه عند الحديث عن أدوارهم في مقالة خاصة بالجامعة – إن شاء الله.
ونظرًا لأهمية الدراسات الإستراتيجية، في ضوء ما تشهده المملكة اليوم من تسارع في الخطى التنموية، تحت مظلة الرؤية، فقد رأيت أن الواجب يحتم العودة للكتابة في الموضوع، وإبراز أهميته، وما يمكن أن تلعبه مراكز الدراسات الإستراتيجية من دور حيوي في مسار تلك الجهود التنموية في الداخل، وما يمكن أن تلعبه أيضاً في مسار العلاقات السعودية الدولية، وخاصة ما يتعلق منها بتحسين صورة الوطن، وتعزيز مكانته.
بدأ الاهتمام بالدراسات الإستراتيجية في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ونما ذلك الاهتمام مع بداية ظهور الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، وتصاعد مع تصاعد حدة الحرب الباردة في بداية الستينيات. وجاءت الحاجة للدراسات الإستراتيجية لدى القوى العظمى، في ضوء الحاجة الملحة لقاعدة واسعة من المعلومات الصحيحة والسليمة، التي تساعد الإدارة السياسية على صنع واتخاذ القرارات. أما إنشاء مراكز الدراسات الإستراتيجية، فقد بدت أهميتها عندما نشبت أزمة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة، أبان حكم الرئيسين جون كيندي، ونيكيتا خروشوف.
وفي عالمنا العربي برزت الدراسات الإستراتيجية بسبب عوامل عدة، منها اختلال التوازن الإستراتيجي في موازين القوى، وتزايد التهديدات الإسرائيلية بعد حرب السويس 1956، ومستقبل النفط وآثاره، والأهمية الإستراتيجية للعام العربي في ظل الصراعات الدولية. وهي الأمور التي شجعت على التأسيس لعدد من مراكز الدراسات الإستراتيجية، والتي يمثِّل مركز الدراسات السياسية والإستراتيجية في مصر أقدمها، حيث إنشىء في أوائل الستينيات، ومركز الإمارات للدراسات والبحوث الذي تأسس في مارس 1994، ومكتب الدراسات الإستراتيجية في المملكة الذي أسس في أوائل الثمانينيات. ولا يزال عدد المراكز في العالم العربي قليلاً، إذا ما قيس بباقي مناطق العالم، ولا تفي بحاجة المنطقة العربية من المعلومات والدراسات والبحوث.
ولا يختلف اثنان على الحاجة «الملحة» لمزيد من مراكز البحوث في المملكة، فتأسيسها يمثِّل استجابة طبيعية لحاجة المملكة الإستراتيجية. فهي المراكز التي تحتاجها للقيام بأعمال التخطيط والتحليل والتنبؤ بقضاياها، وتساعدها على تشكيل الرؤى الإستراتيجية والمستقبلية من جهة، وتبني جسور التواصل مع المراكز الدولية المماثلة من جهة أخرى، للخروج بنتائج وتحليلات وتنبؤات مستقبلية واعدة.
وتأتي أهمية التأسيس لهذه المراكز تعزيزاً لما تمثّله مكانة المملكة، واستجابة للضرورات الجغرافية والسياسية، وبما تنطوي عليه من تحديات للأمن الوطني، وبما تمليه هذه التحديات من «حتمية» تفعيل دور المملكة على مختلف الأصعدة، وتطوير توجهاتها تحقيقاً لمصالحها في كافة مجالاتها الحيوية، سعياً لتطوير علاقاتها الخارجية بالمجتمع الدولي، والقوى الفاعلة فيه على وجه الخصوص.
ويرى الكاتب أن لمراكز البحوث والدراسات الإستراتيجية دوراً مهماً في استنهاض الهمم والطاقات، واستنفار الجهود، وتطوير الشراكة المجتمعية، باتجاه حشد الإرادات القادرة على خدمة الوطن في كافة الميادين، وصولاً إلى أفضل أداء يعزِّزُ رسالة وموقع ودور المملكة، وعلى النحو الذي يخدم خياراتها الإستراتيجية.
ويمثِّل إطلاق عدد أكبر من مراكز الدراسات الإستراتيجية فرصة كبيرة لتعزيز العمل الدبلوماسي، من خلال إطار عمل مستقبلي شامل في مجال صناعة القرار، معتمداً في مساره على باب واسع من الإنتاج الفكري، في مجالات البحث والدراسات العلمية، وما تنظّمه المراكز من الفعاليات.
وفي رأي الكاتب، أنه يمكن لهذه المراكز أن تمثِّل أداة تطور لـ»الوعي الإستراتيجي الجديد» في المملكة، من خلال الاهتمام برصد التحولات الجيوسياسية، ومتابعة تطوراتها، وانعكاساتها على البيئة المحيطة بالمنطقة، وتقييم هذه الانعكاسات وتأثيراتها على الوطن، أمنياً وسياسياً واقتصادياً وعسكرياً وثقافياً واجتماعيًا وغيره.
ومن ناحية أخرى، فان الحاجة لمراكز الدراسات الإستراتيجية، تطرح ضرورة تأسيس أشكال وأُطُر أهلية، تساعد المؤسسات والأجهزة الحكومية، لتلعب أدواراً «قد لا تستطيع الدبلوماسية التقليدية أن تؤديها» في الكثير من الأحيان، دعماً للرؤية الإستراتيجية للقيادة السعودية، القيادة التي تدعو دوماً إلى بناء علاقات سياسية واقتصادية مع مكونات المجتمع الدولي، علاقات تتسم بالتنوع والتوازن والشراكات، المصحوبة ببناء علاقات ثقافية أهلية مع شرائح المجتمعات الأهلية في مختلف دول العالم، دعماً للعلاقات والحوار بين القطاعات الأهلية السعودية، ومثيلاتها من القطاعات في مجتمعنا الدولي.
وسنلقي الضوء في المقالة القادمة على كيف ينبغي أن تكون رؤية ورسالة وأهداف مراكز دراساتنا الإستراتيجية وفقاً لما جاء ذكره أعلاه من منطلقات ومبررات.