الشهادة ليست كل شيء.. لكنها أهم شيء
بقلم – د. عادل خميس الزهراني:
أقول هذا رداً على الأصوات التي ترتفع بين حين وآخر، في محاولة للتقليل من أهمية الدراسة، والحصول على الشهادات التي تقدمها مؤسسات التعليم الرسمية والمعتمدة، إثباتاً على بلوغ حامليها حداً من الكفاءة المعرفية والمنهجية في التخصص المعتمد.. وأتوقع أن هذه الأصوات قد عادت هذه الأيام مع قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالتركيز على المهارات بدلاً عن الشهادات الجامعية في آلية اختيار الموظفين الفدراليين.
لا أعتقد أن هناك من يجادل أن هذا القرار مرتبط بالنموذج الذي صدر فيه، إذ بُني على معطيات خاصة بالحالة الأمريكية وفقاً لدراسات محلية، واعتماداً على معايير خاصة تخص الداخل الأمريكي.. هذا يعني أن قراراً مثل هذا يخص الأمريكيين وحدهم، رغم ما تمثله تجربة الولايات المتحدة العريقة في تنمية الموارد البشرية.. ورغم أننا نتفق مع المبدأ الأساسي في أن التوازن بين المعرفة والمهارة والخبرة هو الطريق الأفضل لصقل الشخصية المسؤولة والنموذجية، إلا أننا نتفق أيضاً أن كل قرار لابد أن يكون مبنياً على تجربة المجتمع وظروفه التي تختلف من دولة لأخرى.
أفكّر حقيقة في الرسالة السلبية التي يوصلها أصحاب مقولة (الشهادة ليست أهم شيء)، لأجيال الشباب والشابات الذين تكتظ بهم مدارس المملكة وجامعاتها.. أعتقد أن هذا لوحده يكفي للتريث كثيراً قبل الانجراف خلف هذه المقولات، واستسهال إطلاق الأحكام العامة.
ماذا تعني الشهادة؟
تمثل «الشهادة» بمفهومها الحديث آخر ما وصل إليها العقل البشري من تطورات في تنظيم عملية التعلم والتحصيل المعرفي، وتقييم هذه العملية.. ليست الشهادة مجرد ورقة يتسلّمها المتخرج عند انتهاء البرنامج، كما يخّيل لهؤلاء… بل هي دليل على أن حاملها مرّ عبر مراحل تعليمية منظمة وممنهجة معرفياً وزمانياً حتى وصل إلى مرحلة من النضج المعرفي تؤهله لحمل هذه الشهادة في التخصص.. فالذي درس الدكتوراه مر بمراحل متعددة من مجلس القسم ثم مجلس الكلية ثم المقابلات الشخصية مع جهابذة ثم الاختبار الشفاهي ثم التحريري والدراسات العليا والأبحاث والاختبارات ثم الاختبار الشامل وبعدها مخطط الرسالة ثم مناقشته ثم الشروع في كتابة الرسالة عبر مسافة مضنية وشاقة ورحلة مع المراجع والمصادر
ثم المناقشة والجلوس أمام جهابذة آخرين يتسمرون أمام هذا الجهد ليصادقوا على أحقية صاحب الشهادة وبعد كل هذا الجهد يأتي من يستهين بالشهادة وصاحبها ويقلل من كل هذه الجهود لغرض في نفسه!
أفضل العقول البشرية في تخصصات التربية والتعليم والمناهج والقياس والتقويم كانت خلف تطوير النظام التعليمي بشكله الحديث، بحيث يحصل المتعلّم (والمتدرّب) على الخبرة الكافية في المعرفة التي يحصّلها، يقف على أبعادها، وتراكماتها، وتحدياتها، ومناهجها.. هذه المعرفة يأخذها المتعلم من خبراء ومتخصصين صبوا خلاصة خبراتهم الثرية والعميقة في المناهج والمقررات التعليمية والنظام التعليمي ككل.
من هنا نقول دوماً إن الشهادة ليست دورات «سلق البيض» التي ابتلي بها قومنا، ويسهم في بث ثقافتها المهترئة -للأسف- أساتذة ومتخصصون، لا صوت لديهم يعلو على انتفاخ جيوبهم وبطونهم.. الشهادة ليست كبسولات (تطوير الذات) ولا (إخراج المارد)، ولا (كن محاوراً في أسبوع بخمسة آلاف ريال).. كما أنها ليست الألقاب الخنفشارية التي توزعها منظمات الفيس بك، وجامعات الفلَس الوهمية…
هذا كله هراء لا دخل له بالشهادة، وما تحمله من معانٍ ودلالات حقيقية.
أعجب ممن يقول إن خبرة الحياة هي الشهادة الحقيقية، وكأن الدراسة مرحلة جنينية تتم في أرحام الأمهات قبل الولادة، أو أن الشخص ينجزها في مرحلة البرزخ قبل تكوّن الوعي البشري.. نعم.. الحياة مدرسة تُعلّم وتدرّب وتصقل وتطوّر… تفعل ذلك عبر مؤسساتها المختلفة، وأهمها المدارس، والكليات المعتمدة، والجامعات العريقة.. الشهادة هي الختم الثابت، والدليل الراسخ على أن صاحبها يسير في الطريق الصحيح… ولا عزاء للوهميين والوهميات.