حقوق مفقودة
بقلم – د. سامح أبو طالب:
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وبعد …
فالمسلمون بناء واحد ، وهم يد على من سواهم ، هذا البناء له حقوق كي يكون متماسكا قويا متحابا ، من هذه الحقوق ما يوجد بالفعل بين المسلمين ، كرد السلام ، واتباع الجنائز وغيرهما ، ولكن هناك حقوق مفقودة تسبب عدم وجودها في هشاشة البناء ، وتمزيقه ، وأعني بعدم وجودها أي: الغالب الأعم ، وليس هذا عند كل المسلمين ، ومن هذه الحقوق :
1- التثبت والتحقق، وعدم التساهل والتعجل في إصدار الأحكام ، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ)[الحجرات:6]. قال الشوكاني: المراد من التبيُّن التعرف والتفحص، ومن التثبت الأناة وعدم العجلة والتبصر في الأمر والخبر الوارد حتى يتضح أمره. وفي حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- : “بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجْلِ: زَعَمُوا”. أخرجه أحمد (17076) . وكثير من التهم تكون باطلة، وكثير من المساوىء لا أساس لها من الصحة، فلا ينبغي أن تقبل الأقاويل والأباطيل دون البينة والدليل، ومن آكد ما ينتبه له معرفة المصدر وتحديد القائل، فكم من تهمة لا يُعرف مُطْلِقُها، وفِريةٍ لا يُكشف مصدرها، وربما إذا عرف القائل وكان من غير المسلمين أو كان من ذوي الأهواء والخصومات ونحو ذلك، فلا اعتبار لمثل قوله، وأهل العلم بالجرح والتعديل يؤكدون أنه (ليس لمجروح قول)، ويبينون أن كلام الأقران في بعضهم البعض يطوى ولا يروى، ويكشفون أن دوافع الذم والنقد إن كانت منافسة وحسدًا، أو مخالفة وبغضًا فإنها لا تقبل على علاتها وبدون نقد وتمحيص .
2-أن يلتمس لهم الأعذار استحضارًا لحسن الظن ، وأن يحمل أقوالهم وأفعالهم على أحسن المحامل، وقد ورد في الحديث الصحيح قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : “ولا أحدٌ أحَبُّ إليه العُذْرُ مِن اللهِ، ومِن أَجْلِ ذلك بعَث المُبَشِّرين والمنذِرِين”. أخرجه البخاري (7416) . ومن سياق شرح الحديث نقل القرطبي ما يلي : إذا كان الله مع كونه أشد غيرة منك- المقصود سعد بن عبادة- يحب الإعذار، ولا يؤاخذ إلا بعد الحجة. ورحم الله أبا قلابة الجرمي حيث قال: إذا بلغك عن أخيك شيء تكرهه فالتمس له العذر جَهْدَكَ، فإن لَمْ تَجِدْ لَه عُذْرًا فقُلْ في نفسك: لعلَّ لأخي عُذرًا لا أعلمه. أخرجه أبو نعيم 2/285.
3- النصح وحسن التوجيه بالأسلوب الحكيم والطريقة المؤثرة ، فالدين النصيحة، والخطأ وارد ، وليس هناك معصوم إلا المصطفى -صلى الله عليه وسلم-، وينبغي أن يكون قصد الناصح إرادة الحق ، وإيثار الصواب ، ومحبة المنصوح، والأصل أن تكون النصيحة في السر بين الناصح والمنصوح وإلا صارت فضيحة.
4- الستر وعدم التشهير والغيبة، لأن الله تعالى قال: ٍ(إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ)[النور:19]. قال ابن كثير: هذا تأديب لمن سمع شيئًا من الكلام السيئ، فقام في ذهنه شيء منه فلا يشيعه ويذيعه. وليستحضر المسلم قوله -صلى الله عليه وسلم- : “مَن سَتَر مًسْلِمًا سَتَرَه اللهُ يومَ القيامةِ”. أخرجه البخاري (2442).
5- العدل والإنصاف ، والتوازن والاعتدال، والنظر إلى حال المرء من جميع الجوانب ، وعدم التركيز على الخطأ القليل وترك الصواب الكثير، والإنسان يوصف بما غلب عليه لا بما ندر من أحواله، وحاطب بن أبي بلتعة -رضي الله عنه- فعل أمرًا عظيمًا يوم فتح مكة، لكن الرسول -صلى الله عليه وسلم- عفا عنه وقال: “لعلَّ اللهَ اطَّلَع على أهلِ بدرٍ فقال: اعمَلُوا ما شِئْتُم فقَد غَفَرتُ لكُم”. أخرجه البخاري (3007) . ومن هنا قال ابن القيم : فوقعت تلك السقطة العظيمة مُغتفَرَةً في جنب ماله من الحسنات.
والمنصف من اغتفر قليل خطأ المرء في كثير صوابه- كما قال ابن رجب- وإنما العبرة بكثرة المحاسن- كما قرر ذلك الذهبي، وزاده إيضاحًا بقوله: ثم إن الكبير من أئمة العلم إذا كثر صوابه وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه وعرف صلاحه وورعه واتباعه يغفر ذلك ولا نُضلِّله ونطرحه وننسى محاسنه، نعم لا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك. ولابن القيم قاعدة جليلة في هذا المقام: لو كان كل من أخطأ أو غلط ترك بالجملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات وتعطلت معالمها. فكم من علقات هدمت ، وأواصر قطعت بسبب عدم العدل والانصاف ، والتعجل في إصدار الأحكام ، ألا فعودوا عباد الله إلى ربكم ولمنهجه القويم .
غفرالله لنا وللمسلمين ، وجمع كلمة المسلمين وقلوبهم على الحق المبين ، وصلى الله وسلم على رسوله الأمين ، وعلى زوجاته ، وآل بيته ، وأصحابه ، والتابعين إلى يوم الدين ، والحمد لله رب العالمين .