عملاق الصحافة “قبضايا”.. و”حكاية الشيخ ممدوح”
بقلم – د. محمد خضر الشريف:
لم أقرأه كتابا أو فكرا ممثلا في كتبه “محاكمة سي السيد” أو “صحفي ضد الحكومة” أو “الخدِّيمة” أو عاصفة الصحراء”.. لكنني قرأته واقعا عمليا، وجها لوجه؛ معاملةً يصحبها الجد تارة، والمزح تارات، والاتفاق والاختلاف في أحايين متنوعة..
التقيته أول مرة عام 1987م في بيته بشارع جامعة الدول العربية، بالقاهرة، وتناقشنا وتحاورنا في أمور كثيرة دينية وأدبية وثقافة عامة، وخرجت أنا من لقائي معه بهرم صحافي كبير ورجل مثقف وكريم وصاحب دعابة، اسمه الدكتور صلاح قبضايا، رئبس تحرير “المسلمون” الصحيفة الدولية، وخرج هو من اللقاء بأن أكون ضمن هيئة تحرير الصحيفة الدولية، وأضاف لي إلى تلك المهمة الصحفية مهمة ثانية، أن أكون المستشار الشرعي واللغوي للصحيفة أيضا، أو كما كان يطلق عليه “رد لاين” أو “القلم الأحمر” للصحيفة، والمسؤول عن إجازة كل حرف ينشر في الصحيفة حسب ضوابطها العامة والخاصة، بما فيها مقالاته هو ومقالات كبار الكتاب وعلى رأسهم فضيلة العلامة الشيخ محمد الغزالي رحمه الله..
بعد اللقاء معه في مصر، أقلتني طائرة إلى جدة، بصحبة الزميل العزيز الصديق والصحفي الكبير الأستاذ/ شريف قنديل، والزميل الصحفي الكبير الأستاذ /محمد الدسوقي، ليمثل ثلاثتنا هيئة تحرير الصحيفة..
(لم يكن الزميل العزيز الصحفي الأستاذ فراج إسماعيل، وقتها ضمن الهيئة التحريرية، لأنه جاء بعدنا بسنة، خلفا للزميل محمد الدسوقي، الذي آثر الرجوع إلى مصر، مدركا له مكانا في الأهرام )..
أول وصولنا استقبلنا الدكتور صلاح قبضايا، وكنا في شهر رمضان المبارك، فخيرنا أن نفطر المغرب معه في فندق (خمس نجوم) أو نفطر في الحرم المكي على تمر وماء زمزم، ولم أنتظر إجابة أحد من الزميلين؛ إذ سبقت الجميع وقلت: قولا واحدا الفطور في الحرم!!
وقادنا بسيارته الخاصة إلى الحرم ففطرنا هناك وصلينا وطفنا ورأينا الكعبة المشرفة لأرل مرة أنا وزميلاي الكريمين شريف والدسوقي، وأشبعنا نهمنا وشوقنا للكعبة ولم نفكر بعدها في طعام في فندق فاخر أو حتى كسرة خبز يابسة !
عدنا إلى جدة فإذا الدكتور صلاح قبضايا يصحبنا مباشرة إلى الفندق ذي خمس نجوم، ليعزمنا على عشاء فاخر أو قل سحور فاخر في الفندق الفاخر، فلما آثرنا بيت الله، رزقنا الله الحسنيين؛ زيارة بيته الحرام والصلاة فيه والطواف حول الكعبة، ثم هذا الطعام الفاخر في الفندق الفاخر أيضا!
كل هذا والدكتور صلاح يعرفني باسمي (محمد) وأخذتنا عجلة العمل: خذ يامحمد وتعالى يامحمد، وروح يامحمد، حتى نما إلى سمعه أن لي اسما آخر هو (ممدوح)، ودهش وهو يقول: “في شيخ كبير في الدنيا وعالم نحرير اسمه ممدوح”؟!
وأخذها” سليوه” في الطالعة والنازلة: ” ياشيخ ممدوح هل يجوز كذا؟.. “ياشيخ ممدوح هل من الجائز فعل كذا”؟!
ويضحك من كل قلبه وهو يقول : “برضو هل في شيخ كبير اسمه ممدوح”؟!!! ها ها ها ها!!
ثم يصمت وفجأة ينادي بصوته العذب الجهوري:ياشيخ ممدوح! فأرد نعم يادكتور!! فيقول عندي سؤال لو سمحت؟!
أنا: تفضل يادكتور صلاح..
فيسأل: هل يجوز شرعا أن يسمي الواحد ابنه ممدوح؟!
وتسبق ضحكاته ضحكاتي وهو يقهقه: ها ها ها ها ها !!!
وإن أنسى لا أنسى ذلك اليوم الذي استفزني فيه مدير تحرير بالجريدة لأمر تافه جدا لايستحق الذكر، وكان الرجل حديث عهد بالصحيفة وبالصحافة كلها، فغضبت منه لتفاهة ما أثاره، فقمت غاضبا، ناويا الذهاب لبيتي إلى غير رحعة، وأنا أغلق أدراج مكتبي للذهاب، لمحني د صلاح- وهو كما قلت يراني وأراه مباشرة- وبكل هدوء نفس صدح: على فين ياشيخ ممدوح؟!
وأخبرته بوجه كله غضب: سأذهب أسدد فاتورة الهاتف المنزلي ولم يكن ذلك متاحا إلا في فرع وزارة “البرق و البريد والهاتف”، في سوق المساعدية بجدة، وفاجأني بقوله: انتظرني أنا أيضا سأذهب معك أسدد فاتورة خاصة بي واستدعى سائقه الهندي الذي أخرج له سيارته “المرسيدس” الحديثة جدا، وهيا بنا ياشيخ ممدوح نسدد الفواتير!
كانت الساعة قريبا من الثالثة عصرا وبالطبع ذهبنا إلى هناك فوجدنا فرع المركز مغلقا فرجعنا ثم أمام مكتبة جرير بشارع فلسطين أوقف سائقه ودخلت معه المكتبة نطوف في أرجائها، وسألني: مارأيك في هذه المفكرة الجلدية؟ أجيبه: رائعة فيسأل: أيهما افضل اللون الأخضر أم الأحمر؟ فأقول: الأخضر، فيرد هي لك والأحمر اي أنا.. وما رأيك في هذا القلم ؟ فأقول: ممناز فيقول هو لك، والثاني لي أنا..
وقفلنا راحعين وهو يسألني: هل أوصلك الى البيت؟
بالطبع لن تكون وجهتي هي البيت بعد كل هذا الذي فعله معي، بل إلى مقر الجريدة ومن ثم إلى مكتبي والعمل، وكيف لا، وقد امتص الدكتور صلاح كل غضبي وثورتي مما استفزني فيه مدير التحرير إياه، الذي لم يكلف نفسه أن يسألني ولو مجاملة: كيف حالك؟!
ومما يخضرني من المواقف مع د صلاح أنني كنت أشرف على صفحة تسمى “المسلمات” بالصحيفة وكانت تعرض لقضايا زوجية من أضابير المحاكم فجاءتني قضية لزوجة تشكو زوجها وأنه يتهمها بالخيانة حتى مع شخصيات ماتت من عشرات ومئات السنوات وو…
واخترت لها عنوانا:”زوجي بتهمني بخيانته من نابليون”!!
ومات الدكتور صلاح ضحكا وهو يقرأ العنوان على البروفة ويطالع في وجهي “مع نابليون بونابرت ياشيخ ممدوح”؟!
ها ها ها ها ها!!
وأخرج من جيبه ريالا سعوديا فضة (يوازي خمسة وعشرين ريالا ورقيا) وأعطانيه هدية !!
ولا أنسى ثقته الكبرى في لدرجة أنه لما غادرنا الزميل محمد الدسوقي، واحتاج بديلا عنه سألني: من ترشح البديل؟
أجبت زميلي فراج إسماعيل. فعقب على ضمانتك؟!
فأجبته: هذه استقالتي أقدمها لك من الآن، إن خاب ظني في فراج، أو لم يبيض وجهي أمامك وأمام الجريدة ومؤسسة الشرق الأوسط كلها!!
تملكته الدهشة من كلامي، وثقتي المفرطة، وعلى الفور تم استقدام الزميل فراج الذي كان فوق ما توقع د. صلاح، سيما وأنه لما رآه تذكر أنه كان يدرس له في قسم الصحافة في جامعة سوهاج، فزاد ذلك من تأكيد كلامي وثقتي في أخي وصديق عمري -ونسيبي لاحقا- والذي بسببه أصبحت خالا لأول مرة في عمري..
ومن المواقف مع د.صلاح قبضايا أنه لما ترك جدة واستقر في مصر رئيسا لتحرير “الأحرار” نزلت في اجازة صيفية فاصطحبني الصديق الصدوق والخلوق والصحفي الجهبذ فراج إسماعيل لأحد النوادي في منطقة الزمالك، لموعد له مع شخص، وما إن دخلت المكان حتى وقعت عيني على الدكتور صلاح ومعه بعض جلسائه، وكانت أمامه قارورة خضراء بها مياه معدنية فرنسية”بيريه”..
وما إن رآني حتى صاح ضاحكا: والله العظيم إنها ماء”بيريه” لاتفكرها حاجة ثانية ياشيخ ممدوح!!!
وسبقت ضحكاته ضحكاتي، وخجلت أن أرد عليه أو حتى أتقدم لمصافحته؛ فكرمه سيجبرني على الجلوس، فخشيت أن أعكر عليه صفاء جلسته..
وبالطبع لم أشك في المياه ولم يخطر ببالي أي شي غيرها؛ وذلك لأنها كانت شرابه الدائم في مكتبه بجدة وفي بيته أيضا.
وأشهد أن صلاح قبضايا كان مدرسة صحفية كبرى فقد كان مكتبه موازيا لمكتبي بحيث أراه ويراني وأسمعه ويسمعني، وكم مرة سمعته يتحدث مع العملاق الكبير الصحفي المخضرم الأستاذ الكبير مصطفى أمين، مؤسس مؤسسة “أخبار اليوم” التي خرج منها د.صلاح قبضايا، وعمالقة صحفيي مصر، وكان الراحل مصطفى أمين مستشارا لمؤسسة الشرق الأوسط الصحفية، وكانت مقالته اليومية (فكرة) التي تنشر في أخيرة “الأخبار” تنشر مزامنة في أخيرة “الشرق الأوسط’ أيضا.
وأشهد أنه -رحمه الله- كان هرما صحفيا وهرما أخلاقيا وهرما من الكرم الأصبل،
رحم الله ابن بورسعيد الراقي والكريم، وابن مدرسة “أخبار اليوم” الصحفية، وأستاذنا الذي تعلمنا منه الكثير والكثير في مهنة” البحث عن المتاعب”!