الباحث

مشي الخطى” بين الشافعي والمعري والدريني .. محركات البحث لم تنصف الوراق


=================
دراسة أدبية تحليليةيكتبها:
د.محمد خضر الشريف
===============
مشيناها خطى كتبت علينا
ومن كتبت عليه خطى مشاها

ومن كانت منيته بأرض
فليس يموت في أرض سواها

طرحت على زملاء “الاستراحة الخضرية” سؤالا عمن قال هذين البيتين السابقين الشهيرين والذائعين صيتا على ألسنة الناس؟

واتكأ الجميع على مواقع الانرتنت التي بدورها تتباين في نسبتهما إلى قائلهما فبعضهم قال: هو ابو العلاء المعري، وبعضها نسبهما للشيخ عبد العزيز الدريني ، وقد قرأتهما مرة أنهما للإمام الشافعي..

وللأسف كل هذا غير صحيح، ولو أن المهتمين بهذا الشأن دققوا النظر وبحثوا بجدية في المصادر الشعرية التراثية والأدبية لتوصلوا إلى الحقيقة التي توصلت إليها وهي أن نسبة البيتين لصاحبها الشاعر العباسي محمود بن الحسن الوراق، المتوفي عام 230هـ..

وسأوضح لكم الطريقة التي استخدمتها بتطبيق قرينة الأسبق تاريخا للوصول إلى صاحبها الحقيقي مع استخدامي أيضا وسيلة البحث الدقيق والتفتيش في قصائد دواوين من قيلت فيهم..

وإليكم مافعلته مستعرضا من نسبه إليه البيتين على النسق التالي:

أولا/ الإمام الشافعي :

بحثت أولا في تاريخ وفاة الشافعي فرأيته توفى عام 204 هـ وهذا يعني أنه الأسبق تاريخا

وهو وإن كان أقدمهم تاريخا وأقدمهم شعر حكمة وزهد، فان نسبتهما إليه لهو الأحق بها ظاهرا..

غير أنني راجعت ديوانه المطبوع باسمه ، وعرجت على أكثر من ثلاثين ومائة قصيدة له، فلم أعثر على هذين البيتين؛ فأخرجت نسبتهما إليه من السباق، بالرغم من أنه – كما قلت – الأقدم تاريخا؛ مقارنة بالشعراء الآخرين الذين نّسب إليهم هذان البيتان.

ثانيا/ الشاعر أبو العلاء المعري:

الشاعر أبو العلاء المعري، توفي عام 449هـ

وهذا يعني أنه لاحق على الشاعر الوراق، فقد أتي بعده بقرنين من الزمان ، وعدة سنوات، وليس سابق له ، والسابق تاريخا هو الأحق بنسبة الأبيات إليه..

ثم أني عرجت على ديوان أبي العلاء المعري، الذي حوى عشرات من القصائد المنوعة، فلم أر له في أيها هذين البيتين جملة وتفصيلا، فعجبت ممن نسبهما إليه. والظاهر والله أعلم أن أحدا ممن كتب على وسائل التواصل الاجتماعي البيين ونسبهما من عنده للمعري فأصبح كل من يضع محرك البحث يخرج له أن النسبة للمعري وهو خطأ بالطبع..

ثالثا / الشيخ عبد العزيز الدريني:

والبعض نسبهما -وبقوة وثقة – للشاعر المصري الزاهد العارف بالله الشيخ عبد العريز الدريني، من احدى قرى الغربية من مصر.

وهذا أيضا توفي عام 697هـ ، أي أنه لاحق على الشاعر الوراق بكثير فقد أتى بعده بما يزيد عن أربعة قرون، والسابق هنا هو أحق بهما..

نعم بعض الزملاء اجتهد وأوضح لنا المصدر الذي استقى منه لكن أيضا عبر الانترنت فقط كما نقله من كتاب للقرضاوي والقرضاوي نفسه ألبس عليه الامر إذ أنه استقى هذا من الذاكرة أو سماعا اوقراءة خاطئة من أن البيتين للدريني..

وبعض الزملاء نسبهما له استنادا لموسوعة “وكيبيديا”، وهذه ليست حجة دائما فهي مفتوحة للكتابة من لدن الجميع ، والجميع يضعون أحيانا من ذاكرتهم أو مما نقلوه خطأ -سماعا أو قراءة- في غير المصدر الحقيقي، فتبقى النسبة غير صحيحة .

وقد قرأت مقالات في مواقع الكترونيةً وصحف ورقية تنسبهما له مع بضعة أبيات دون الاستناد على مصدر ثبت أو ديوان شعري له.

رابعا/ الشاعر محمود الوراق:

والشاعر محمود بن الحسن الوراق، توفي عام 230هـ ..وهو شاعر الزهد والحكمة التي تحول إليها بعض أن كان في بداية حياته شاعر لعب ولهو ومجون كما هو حال كثير من شعراء العصر العباسي..

وأيّد صحة ما ذهبت تصفحي لديوانه؛ فوجدتهما في احدى قصائده. وبهذا “فطعت جهيزة قول كل فه بخطيب” كما يقول المثل العربي..

قال محمود الوراق في ديوانه المطبوع ص 161 مجموعة أبيات من “بحر الوافر” ذكر فيها “خطى مشاها ” يقول :
أقام على المسير وقد أثيرت/
ركائبه وغرد حادياها
وقال أخاف عادية الليالي/
على نفسي وأن تلقى رداها
فقلت له عزنت عليك إلا/
بلغت من العزيمة منتهاها
فمن كانت منيته بأرض /
فليس يموت في أرض سواها

وبهذا التحليل الاستقصائي تاريخيا وبحثا في الدواوين؛ يتضح لنا بدون أدنى شك أن الشاعر الوراق هو صاحبهما لاغير…
وللأسف لم يذكره أحد ولم ينسب البيتين له أحد، بالرغم من أنه ذكرهما في معرض أبيات له في ديوانه الذي يحمل اسمه .
ولم تذكره أيضا محركات البحث أو تنصفه فتذكر نسبة البيتين إليه.

ربما تسالني :لكنك لم تذكر في أبيات الوراق إلا بيتا واخدا فقط وهو الأخير مع أن الدريني ذكر البيتين؟!
وأجيبك: لهذا وجهان
الأول: أن البيت سقط من شعر الوراق ولم بعثر عليه جامع الديوان ومحققه وهو الدكتور القصاب، لأن أغلب شعر الوراق ضاع وقام المحقق بجمعه من بطون الكتب في ديوان خاص مطبوع محقق..
الثاني: أن الشيخ الدريني أخذ-ولا أقول سطا-على بيتي الشاعر فأضاف إليهما أبياته التي اشتهرت عنه فنسبا له ضمن مجموع أبياته ولم يلحظ ذلك أحد؛ سيما وأن ديوان الوراق تم جمعه وتحقيقه مؤخرا عام 1991م
وجتى وإن كان للوراق بيت واحد فقط وهو الأخير ثم أخذه الدريني بنصه “لحما وشحما” فدليل واضح وقوي على أن الوراق هو صاحب الشأن وله قصب السبق..
** ويبقى السؤال الذي يطرح نفسه : لماذا يعتمد الناس على أخبار شبكات التواصل ويعتبرونها مصدر ثقة؟

وأقول: ربما لأن محركات البحث أصبحت هي الأسرع في الوصول إلى المعلومة أيا كانت أدبية أوعلمية أو اقتصادية أو رياضية، لكن المهم من الذي يضع المعلومة..

وفي رأيي ألا يكون الاعتماد على المعلومة عبر الانرنت – مثلا في الشعر – إلا بتصفح الديوان المطبوع الذي يتم تصويره عبر (بي دي اف) شكلا وصورة وأرقام صفحات وجميع البيانات، وهو أسهل في الوصول والبحث، وبعد القراءة والاطلاع يكون الاقتباس، أما من يكتب من راسه دون روية او تريث او بحث اوتمحيص كمن يكتب من ذاكرته أو كما تقول العامة( ينخع من راسه) فهذا يحدث بلبلة وتسيطحا في أصول تراثنا ونسبة ما يقال منه شعرا او نثرا دون ثبت للمصادر المعتمدة.

فمثلا أحدهم يقرأ في كتب الأولين بيتا من الشعر ولا يذكر الكاتب اسم صاحبه كأن يقول مثلا :”قال الشاعر”؛ فيأخذه من يقرأه حفظا فيقول مثلا؛” قال الشافعي” وهو يظن أنه مادام شعرا يحث على مكارم الأخلاق فهو للشافعي..

وغيره مثلا يقرأ بيتا للحكمة فيحفظه سماعا ثم لما يكتب ينسبه للمتنبي؛ باعتبار أن المتنبي هو “شاعر الحكمة”، وهكذا.. وكثيرا ما وقع اللبس في شعر متشابه ينسبه أحدهم للمتنبي وهو للمعري أوالعكس أو ينسبه احدهم لصالح بن عبد القدوس وهو للإمام علي او العكس أو ينسبه أحدهم لشوقي وهو لحافظ إبراهيم.

ونسبة الأبيات لا تقل في خطئها عن نسبه كتاب بعينه لغير صاحبه وقد وقع الأكابر في ذلك فمثلا صاحب كتاب “كشف الظنون” نسب كتاب “الانوار الواضحة في معاني الفاتحة” لعبد العزيز الدريني مرة، ونسبه أخرى لشرف الدين الانصاري في الوقت الذي نسبه سيد كسروي محقق ديوان “الإسلام “، له..
ذكر ذلك الدكتور حسن محمد عبد الهادي في تحقيق “المختار من إلزام الضروب بالتزام المندوب لزوم مايلزم” شعر شرف الدين بن محمد الانصاري الدمشقي الحموي المتوفي 662هـ

والخلاصة أننا كلنا نفيد من شبكة الانترنت لكن بتوصيلها لنا للكتاب الأصلي أو ديوان الشعر الأصلي؛ لنقتبس من الأصل ما نريد.
ومما عم وطم في هذا الشأن إن بعضهم ينسب من رأسه كلاما للناس دون تثبت أو يكتب الشعر دون نسبته لصحابه فيظن الظان أنه صاحبه، ثم يستخدم مستخدم بعده محرك البحث، فيحيله إليه على اعتبار أن من كتب ولم ينسب هو صاحب الشأن.

وأخيرا ..لاتعتمدوا على محركات البحث إلا إن أوصلتكم للمصدر الأصلي وتصفحتموه سواءّ كان أدبا -بشقيه الشعري والنثري- أو معلومة علمية أو اقتصادية او صحية أو حتى رياضية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى