مات صاحب “واقف على بابكم ولهان ومسيرَّ” فالرياضة لم تفلح في ركل أقفال السياسة
بقلم – جمال الياقوت:
يَخْطرُ الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة على البال ومعه “أوال” و”دلمون” والمحرق والمنامة والرفاع.
وأتابع الحوارات التلفزيونية مع شيخ الرياضة البحرينية فتأخذني “الدَّال” البحرينية المُشدَّدة في اللهجة العذبة إلى ينابيع “سماهيج” القديمة وأزمنة عين “عذاري” وأماسيّ بساتين “الحنينية” ، وإلى عطش اليمام وهو يحط على جداول سواقي مزارع “الزلَّاج” وهي تتضاحك بالماء .
وقبل أن تكسر جزيرة البحرين حصار الماء وتنجح في مدِّ قنطرتها إلى اليابسة لتعبرها حلوى “شويطر” ولتترنَّحَ أطواق الياسمين والمشموم على مرايا السيارات العابرة لجسر الملك فهد ، كان الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة أجمل جسور البحرين إلى الشطآن البعيدة ، ومن خلاله عَبَرَتٌ كلمات “واقف على بابكم ولهان ومسير” إلى حنجرة فنان الخليج فرج عبدالكريم ، ومنه إلى كل أذن عربية من البحر إلى البحر.
وتستعيد الذاكرة أمير الرياضة البحرينية فتتدافع ليالي كأس الخليج تحت صبابات قمرها الأجمل الشيخ عيسى بن راشد الذي أعطى البطولة ألقها ورونقها منذ انطلاقتها في البحرين عام ١٩٧٠م.
وطوال أيام البطولات الخليجية كانت صفارات الحكام تنهي تسعين دقيقة من هرولة اثنين وعشرين لاعبا لركل الكرة المسكينة كل أصيل لتبدأ أهم وأجمل المباريات بين رؤساء الوفود كل ليلة بمقار المنتخبات.
وكان الشيخ عيسى بن راشد نجم تلك المباريات والمهاجم العنيد في أشواطها بل وفي الاستراحات بين الأشواط.
وكان دوما الحكم والخصم والمحلل الرياضي ورئيس روابط المشجعين.
وكان أفضل من بجبر عثرات منتخبه في المستطيل الأخضر بالانتصار له في مربعات ومستطييلات ومثلثات ودوائر الملاعب في ليالي الفنادق.
وكان بروحه المرحة وحضوره الجميل مقبولا من الكل ومحبوبا من الكل ووسيطا مرضيَّاً من الكل.
ورغم أن البحرين لم يُقَدَّرْ لها أن تطفئ شوق الفوز بالبطولة التي انطلقت من أرضها قبل قرابة نصف قرن إلا مع آخر نسخة بالدوحة ، وفي غياب أمير رياضتها الشيخ عيسى بن راشد الذي أبعده المرض عن مرافقة منتخبه إلى قطر ، فاجتمعت على فراش الشيخ وطأة المرض وغصة سفر المنتخب بدونه وغربة رحيل رفاق الدرب الذين أضافوا للبطولات ملحها ولكأس الخليج وهجه.
إلا أن الفوز بنسخة الدوحة وإن تأخر طويلا عن استحقاقات مرور موكب الكأس عبر باب البحرين قد عوَّض الغياب وهزَّ نخيل المنامة و”جد حفص” و”سنابس” ورسم البهجة في القضيبية والبديع وعوالي ، وعلى كل شبر في البحرين.
ولعل الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة الذي ملأ البطولات نصف قرن من المقالب والفكاهات ، وأحيا سمر لياليها قصائد وحكايات ، كان الأحوج للفوز من كل نخيل البحرين ، ومن كل سفينة وموجة ومحارة جاهدت لتكسر عقدة حصار الماء ليغمض الشيخ عينيه والكأس في يديه.
لقد رحل الشيخ مبتسما وهو يرى وجوه شباب البحربن تسطع في لمعان الكأس الذي استنزفه شخصيا حتى الرمق الأخير.
وبرحيل أمير الرياضة البحرينية وشيخها تودع الرياضة الخليجية آجمل آبائها الكبار.
وتخسر الساحات آخر المحاربين الشرفاء الذين سعوا لتعبر الرياضة فوق جراحات السياسة ، ولتردم الرياضة الهوة التي حفرتها المعاول الهدامة للسياسة ، ففرقت شباب المنطقة الواحدة.
وقد تفاءل المشهد الرياضي بنسخة الدوحة وعلق عليها الكثير من الآمال ، فاتنعشت أماني الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة بعودة الخليج إلى نفسه.
وكان لافتا نهوض الشيخ من سريره ليشارك شباب بلاده فرحة عبور الكأس لباب البحرين وقد تناسى مرضه ليتسلم بفرحة شاب كأس البطولة كسارية انتصار لفوز الرياضة على السياسة.
إلا أن السياسة البغيضة سرعان ما انتفضت من جديد عقب عودة المنتخبات إلى أوطانها لتقتل الحلم ، ولتعيد الشيخ المتفائل إلى سريره مجددا لينزف قيح صنائع أهل الخليج ، ولتنتحر على فراشه قصائده.
وكانت رائعته “واقف على بابكم ولهان ومسير” هي نبوءة الشعر بعد أن قوبل المنتظر بآذان صماء فتورمت الأقدام لطول الوقوف.
وكأنَّ الزمن في قصيدته “يومين مروا علي سنتين لو اكثر
ما قدرت يامنيتي عن شوفتك أصبر ” لم بشفع لقائلها ، فانتطر إلى أن حرقه الصبر ، بل واحترق معه الصبر.
لقد رحل الشيخ عيسى بن راشد وهو ينزف :
“خليتني يا هوى أوقف على البيبان
من حرةٍ بالحشى من كثرة الأشجان
فضحتني ياهوى
تالي انكشف سره
مَحٌدٍ درى بقصتيي
والحين كل الناس.