الأخوة الاسلامية..ضرورة حتمية يفرضها الواقع
بقلم المفكر العربى الدكتور خالد محمود عبد اللطيف
رئيس تحرير جريدة الأمة العربية ورئيس اتحاد الوطن العربي الدولي
المدير التنفيذي لجامعة بيرشام الدولية الاسبانية
مما لاشك فيه أن هناك أمراً يجعل من الأخوة الإسلامية ضرورية حتمية، ومطلبًا جازمًا، ورباطاً لا يسع المسلمين إلا أن يعضُّوا عليه بالنواجذ، ويجعلوه واقعًا عمليًا، ألا وهو حالُ المسلمين في عصرنا هذا وواقعهم، وما عليه حال الأمم الأخرى غير الإسلامية، بالإضافة إلى السوابق التاريخية – القديمة والحديثة – التي تتصل بعلاقة الغرب بالعالم الإسلامي، وغير هذا من النوازل العصرية التي لا يمكن لعاقل تجاهلها، والتي نشير إلى أهمها فيما يلي:
أولا: العصر الحاضر هو عصر التكتلات والأحلاف:
إن العصر الحاضر هو عصر التكتلات والتجمعات والأحلاف القوية، التي لا تعرف غير مصالحها وإن كانت على حساب الآخرين ومصالحهم بل ووجودهم، فهي تكتلات لا تعرف الرحمة، بل ولا العدل، ولذا لم يَعُد في عصرنا الحاضر – مع الأسف – مكان للضعفاء أو المتفرقين الممزقين.
وعلى سبيل المثال فها هي أوربا الآن قد سعت بكل جهدها لتحقيق الوحدة الكاملة فيما بين بلدانها العديدة، فأقامت الأحلاف والتنظيمات والمعاهدات في كافة المجالات وشتى الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية… وغيرها، للوصول إلى تلك الوحدة والاندماج التام الذي يجعل منها كيانًا واحدًا، وزعماء أوربا ماضون في هذا السبيل بكل جِدٍّ، وفي كل يوم نراهم يتقدمون خطوة لترسيخ وحدتهم وحلفهم
فلماذا يبقى المسلمون هائمين على وجوههم في أودية التيه، وخلف رايات التفرق، دون أن يلتئم شملهم برباط الدين وأخوة الإسلام، التي جعلهم الله عز وجل بها أمة واحدة، وجسدا واحدا إذا اشتكى بعضُه اشتكى كلُّه؟!
ثانياً: طبيعة علاقة الغرب بالعالم الإسلامي:
ثم إننا إذا نظرنا في علاقة الغرب ومن يدور في فلكه من الأمم غير المسلمة بالعالم الإسلامي، ووقائع التاريخ ذات الصلة بالعلاقة بين الغرب والإسلام في غابر الزمان وحاضره؛ فإننا نجد عداء كامنا في الشعور الغربي نحو العالم الإسلامي، يظهر أحيانا ويختفي حينا آخر، إلا أن المعطيات والشواهد التاريخية حتى وقتنا هذا تؤكد بأن هناك أحقاد لم تُطفئها الأيام، من شأنها أن تجعل العالم الإسلامي دائما موضع كراهية من الغرب، وتجعل المسلمين – في جملتهم – هدفا لاعتداء الغرب وظُلمِه من آن لآخر، بصور مختلفة، من استعمار عسكري ثم استعمار سياسي، إلى استعمار اقتصادي، إلى غزو ثقافي… إلى غير ذلك من ألوان الكُره والإيذاء للمسلمين من جانب الغرب، وأي مراقب لموقف الغرب ومؤسساته المتخاذلة حيال قضايا العالم الإسلامي، من خلال المحافل الدولية، كالأمم المتحدة، ومجلس الأمن وغيرهما؛ يدرك حقيقة ما ذكرنا.
ومع وجود هذه الحقيقة، فإن هناك من بني جلدتنا من يسخر من هذا الكلام، ويتهمنا بأنا غرقى في الأوهام، وأننا أسرى النظرية التآمرية، التي تفسر كل شيء من قبل الغرب تفسيراً عدائياً تآمرياً ضدنا، وأن الأمر أهون بكثير مما نُهول، وأن موقف الغربيين من الإسلام والمسلمين إنما يتسمُ بالموادعة والتسامح.
والواقع أنا كنا نتمنى أن يكون الأمر عكس ما نقول، وأن يكون حال أوربا اليوم كما يذكر من يعارضوننا الرأي، ولكن – مع الأسف الشديد – نجد القرائن الكثيرة تدل على أن الكره الغربي القديم لعالم الإسلام لم تنطفئ جذوته لدى الأوربيين إلى يوم الناس هذا.
وهذه مسألة لها جذورٌ عقدية؛ تعود في جوهرها إلى كون المسلمين يدينون بالإسلام، وكون الغرب – في أكثريته وأغلبه – لا يدين بهذا الدين الذي يتصادم مع معتقدات الغربيين على اختلافها، سواء أكانت نصرانية أم يهودية، أم إلحادية، أم غير ذلك، والكُفْرُ كله ملة واحدة.
فهؤلاء الغربيون يجمعهم كونهم غير مسلمين أولا، ثم كراهيتهم للإسلام ثانيًا.
قال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ﴾ [الأنفال: 73].
وقال سبحانه: ﴿ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 32 – 33].
ثم إن تصريحات المسؤولين الغربيين المعاصرين تُلقي لنا مزيدا من الضوء على الخلفية النفسية والشعورية للغرب تجاه العالم الإسلامي.
قال مسؤول فرنسي في وزارة الخارجية، سنة 1952م: «ليست الشيوعية خطراً على أوربا – فيما يبدو لي – وإذا كان هناك خطر فهو خطر سياسيٌّ عسكريٌّ فقط، ولكنه ليس خطراً حضارياً تتعرض معه مقومات وجودنا الفكري والإنساني للزوال والفناء.
إن الخطر الحقيقي الذي يهددنا تهديداً مباشراً عنيفاً هو الخطر الإسلامي، فالمسلمون عالمٌ مستقلٌّ كل الاستقلال عن عالمنا الغربي، فهم يملكون تراثهم الروحي الخالص ويتمتعون بحضارة تاريخية ذات أصالة، فهم جديرون أن يقيموا بها قواعد عالم جديد دون حاجة إلى الاستغراب، أي دون الحاجة إلى إذابة شخصيتهم الحضارية والروحية بصورة خاصة في الشخصية الحضارية الغربية»
ويقول لورانس براون: «إذا اتحد المسلمون في امبراطورية عربية أمكن أن يصبحوا لعنة على العالم وخطراً، وأمكن أن يصبحوا نعمة له أيضا، أما إذا بقوا متفرقين فإنهما يظلون حينئذ بلا قوة ولا تأثير»
ويقول ألفريد كانتول سميث: «إن الغرب يوجه كل أسلحته الحربية والتعلمية والفكرية والاجتماعية والاقتصادية إلى العالم الإسلامي، بغرض إذلاله وتحقيره، وإشعاره بالضآلة والخنوع، وإن الغرب وقف في صف الصهيونية ضد العرب والمسلمين، متأثراً بتلك العداوة القديمة بين المسيحية والإسلام»
ومن أراد شهادة واضحة على موقف الغرب المتسم بالبغضاء نحو الإسلام فليراجع ما كتبه «ليو بولد فايس» النمساوي الذي اعتنق الإسلام وتسمى باسم «محمد أسد»؛ حيث ذكر كلاماً حاسماً في هذه القضية، يجدر بنا أن نورد بعضا مما قرره، إذ يقول رحمه الله:
«إن الحروب الصليبية هي التي عينت في المقام الأول والأهم موقف أوربة من الإسلام لبضعة قرون تتلو»[5].
ثم يقول: «إن روح الحروب الصليبية – في شكل مصغر على كل حال – ما زال يتسكع فوق أوربة، ولا تزال مدنيتها تقف من العالم الإسلامي موقفا يحمل آثارا واضحة لذلك الشبح المستميت في القتال»
ولقد تعودنا أن نرى الدول الغربية ومعها أمريكا – في كثير من الأحيان – أن تكيل دائما بمكيالين في المنظمات والمحافل الدولية، فإذا كان ثمة مشكلة خاصة بأحد الأقطار الإسلامية، تكون قيم العدالة وإنصاف المظلوم شعارات الديمقراطية ونحوها في إجازة مفتوحة، أما إذا كانت هناك مشكلة تخص غير المسلمين انبعثت تلك القيم من مرقدها، ورفع الجميع شعارات العدل والديمقراطية وإعادة الحق إلى نصابه، ونادوا بها مدوية في شتى المحافل!!
ولا أدلَّ على ذلك من مواقف الغرب من قضايا العالم الإسلامي الملتهبة، خلال النصف الثاني من القرن العشرين الميلادي، مثل قضايا كشمير، ومشكلة فلسطين، وقضية مسلمي البوسنة والهرسك التي تفجرت في العقد الأخير من القرن العشرين الميلادي، حيث سال الدم المسلم أنهاراً، وشهد التاريخ تفرّج الغرب المشين، وتخاذل المسلمين المهين، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
ثم إنه لما حدثت مشكله «تيمور الشرقية» وهي إحدى جزر إندونيسيا، حيث قام أهالي تلك الجزيرة يطالبون باستقلالهم عن إندونيسيا، وكان ذلك في عام 1997م، وحدثت أعمال عنف من جانب التيموريين ومواجهات بينهم وبين السلطات الإندونيسية، ولأن أكثر أهل «تيمور» نصارى تحركت على الفور المنظمات الدولية، وأرسلت قوات لحفظ السلام، وحمايتهم، وتقرر أن يُجرى استفتاء على الاستقلال من عدمه، وتم بالفعل، وكانت النتيجة لصالح المطالبة بالاستقلال عن إندونيسيا، وتم تنفيذ هذا الأمر على الفور، وفي مطلع القرن الحادي والعشرين كانت «تيمور الشرقية» أحدث دولة عضو في الأمم المتحدة.
أما المسلمون في كشمير فيُترَكون أكثر من نصف قرن تطحنهم آلة الحرب الهندية، ولا تتحرك هيئة الأمم المتحدة، أو تسعى لمجرد إجراء استفتاء لأهلها على قضية الاستقلال من عدمه، بل وتوصم الحركات الجهادية التي تقاوم الاحتلال الهندي الغاشم لكشمير بالتطرف والإرهاب، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
أليس الأولى بالمسلمين والأجدرُ بهم – في ظل تلك الأحوال والظروف – أن يسعوا لإحياء الأخوة الإسلامية، وأن يرعوها حق رعايتها، كي لا يضيعوا وتضيع حقوقهم أكثر مما هو حاصل، بسبب غياب رابطة الأخوة فيما بينهم؟
إن واقع الغرب المتفوق علينا الآن ماديا، ويتعامل مع قضايانا ومشكلاتنا من منطلق خلفية عقدية وتاريخية بغيضة – كما أشرنا – ليُحتم على المسلمين في المشارق والمغارب أن يتنادوا من جديد ويهبوا بعزيمة صادقة لإصلاح ما فسد من علائق فيما بينهم، وتقوية ما وهن من رباط أخوتهم، وجمع ما تشتت من شملهم تحت راية الأخوة الإسلامية، ومن منطلق قوله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ} [الأنبياء: 92]، {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]، وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «المسلم أخو المسلم»
ثالثاً: ما نراه من إخاء بين أصحاب كل دين من غير المسلمين:
والواقع أننا نشاهد بين أصحاب كل دين من غير المسلمين إخاء فيما بينهم على أساس الدين الذي يجمعهم، مثل النصارى، واليهود في أقطار الدنيا، حتى البوذيين وعبّاد البقر، وغيرهم، يتآخون فيما بينهم في إطار أديان كل منهم، إخاءً تترتب عليه حقوقٌ وواجباتٌ نحو بعضهم البعض، من أبرزها الموالاة فيما بينهم.
ألا يكون المسلمون أحق بالتجمع والالتقاء على التآخي فيما بينهم من تلك الأمم؟ أليس الأجدر بهم أن يكونوا أمة واحدة، وكيانا متماسكا، وصفا واحدا في زمن تداعت عليها الأمم كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها، بدلا من أن تبقى مشتتة ضعيفة كغثاء السيل؟
رابعاً: حاجة المسلمين إلى استرداد حقوقهم السليبة ودفع العدوان الواقع عليهم في العالم:
ثم إن المسلمين في العصر الحاضر يعانون من ضعف ووجع، وتفكك وتخلف في مجالات كثيرة، كما يتعرضون لاستهانة الأمم غير المسلمة بهم، بل والعدوان عليهم واستلاب حقوقهم وأرضهم وأموالهم وديارهم ومقدساتهم، وانتهاك حرماتهم، وهذا في أماكن شتى من العالم، كما هو الحال في فلسطين، وكشمير، والهند، والشيشان، وبورما، وكما جرى لهم وحل بهم في البوسنة والهرسك، وكوسوفا، وغيرها من بقاع الأرض التي يتعرض فيها المسلمون للفتنة والمهانة والاضطهاد.
لذلك فهم أحوج ما يكونون إلى إقامة الأخوة الإسلامية والانضواء تحت لوائها، والانصهار في بوتقتها، كي تتحقق لهم الوحدة والمنعة والعصمة، وتنحل مشكلاتهم الاقتصادية والسياسية، وتزول عنهم الفتنة التي يتعرضون لها من قبل أعداء لا يرقبون في أحد من المؤمنين إلًّا ولا ذمة، فإحياء الأخوة الإسلامية اليوم بالنسبة للمسلمين هو طوق النجاة، والحصن الحصين، وسبيل العز والتمكين.
لقد أتى على المسلمين اليوم زمان صاروا فيه كالأيتام على موائد اللئام، وبات الدم المسلم في أطراف كثيرة من المعمورة أرخص الدماء، وأسهلها إراقة من قبل أعداء الإسلام والمسلمين، وما تجرأ هؤلاء الأعداء الملاعين على سفك دماء المسلمين دون مبالاة – كما رأينا في البوسنة والهرسك، والشيشان، وفلسطين – إلا لأن المسلمين متفرقون ممزقون تحت رايات شتى، وموزعون مبعثرون خلف ولاءات مختلفة من القوميات والعنصريات العرقية والإقليمية الضيقة، تاركين التوحد والتآخي تحت راية الإسلام والإيمان، ولسوف يستمر هوانُهم على أعدائهم، وعدمُ اكتراث خصومهم بهم ما داموا على هذا النحو من التشتت والتمزق، وعدم الالتفات إلى أهمية وضرورة إقامة الأخوة الإسلامية فيما بينهم؛ ذلك أنه لن يوحدهم ويجعل منهم قوة تستعصي على الخصوم إلا الإسلام، ولن يكون لهم مهابةٌ في نفوس أعدائهم إلا بأن يكونوا أمة مسلمة، لا شرقية ولا غربية.
أفلا تحتِّم مثلُ هذه الأحوال وتفرض على المسلمين في هذا العصر خاصة أن يلوذوا بأخوتهم الإسلامية، ويقيموها فيما بينهم على الوجه الذي شرعه الله تعالى لتتوحد بها صفوفهم، ويقوى كيانُهم، وتحترم حقوقهم، وتصان دماؤهم وكرامتهم؟