“الطّارق”.. أنشودةٌ تهاميةٌ نابضةٌ بصدى الحقول وأنغام الحنين

جيزان – واس:
يتردّد شعر “الطّارق” في سهول تهامة، أنشودةً قديمةً، نسجها الإنسان من وجدانه، وجعلها رفيقةً لأيام الحصاد وليالي السمر تحت ضوء القمر، ليغدو هذا الإنشاد موروثًا فنيًّا متفرّدًا يحمل عبر الأجيال صدى الحقول وأنغام الحنين، شاهدًا على ثراء المكنون الثقافي للإنسان في تهامة وتنوّع تعبيراته الوجدانية.
ويُعدّ شعر “الطّارق” أحد أبرز الفنون الشفاهية التي ازدهرت في منطقة جازان، وفي سهول تهامة عامّةً، وارتبط هذا الفن بحياة الإنسان اليومية، فكان وسيلته للتعبير عن مشاعره في العمل والحب والحنين، وصدىً صادقًا لتجربته مع الأرض والطبيعة.
ويُعرّف الباحث في التراث الشعبي بمنطقة جازان معبّر بن علي النهاري، شعر “الطّارق” بوصفه لونًا من فنون الحداء التهامي يؤديه أصحاب الأصوات الجميلة، حيث نشأ في بداياته تعبيرًا عفويًّا عن موقفٍ آنيٍّ أو حالةٍ وجدانية، يترجمها الشاعر في لحنٍ صوتيٍّ يفيض بالعاطفة والإحساس، مستندًا إلى مهارته في التطريب والأداء.
وأضاف النهاري أن هذا الموروث يعتمد اعتمادًا كبيرًا على أسلوب المؤدي وطريقته في أداء الكلمات، ويُصاحب النص لحنٌ يُعرف محليًا باسم “الملالاة”، وهي تنغيماتٌ صوتيةٌ متتابعة تُبنى على تكرار حروفٍ بعينها في إيقاعاتٍ متصاعدةٍ ومنخفضةٍ وفق النَّفَس ورخامة الصوت، وغالبًا ما يبدأ الأداء بصوتٍ مرتفعٍ يتدرّج نزولًا لتبدأ مرحلة “الملالاة” التي تشكّل المقطع الموسيقي الأجمل في القصيدة، وتتوالى أصوات اللام والواو والهاء في تناغمٍ موسيقيٍّ يبرز جمال الترجيع وصفاء النغمة.
وعن النص الشعري في “الطّارق” أوضح أنه يتكوّن من قسمين رئيسين؛ الأول يُعرف بـ”الطرْق” أو “الترسيم”، ويأتي استهلالًا وصفيًّا يتناول أحاسيس الشاعر، بينما القسم الثاني هو “الرّد”، يؤديه شاعرٌ آخر تفاعلًا مع المقطع الأول، فيُفصح من خلاله عن المعنى المقصود ويستكمل الحالة الشعورية.
وتنوّعت ألحان الفن التهامي العريق، فكان منها اللحن الرفيع الذي يبدأ من أعلى الطبقات الصوتية، ولحن الشجن الذي يُؤدّى في طبقة القرار، ليمنح الأداء ثراءً موسيقيًّا يعكس صدق الإحساس وعمق التجربة، ويمتاز شعر “الطّارق” بلغته الرقيقة وأغراضه الوجدانية التي تتوشّح بمشاعر الحب والحنين، وبجمال تراكيبه واعتماده على الجناس التام والتنغيم الصوتي المتقن.
وقد ازدهر الطّارق بلونه الشعري المميز على أيدي شعراء تهامة البارزين الذين أبدعوا بفنّهم، فحفظوا من خلاله موروثًا فنيًّا أصيلًا يُجسّد هوية المكان وثراء الإنسان، ويُضيف إلى ذاكرة المنطقة لوحةً نابضةً بالحسّ والإبداع، فيما تبرز اليوم أهميةُ التدوين والتوثيق لصون هذا الفن وضمان انتقاله إلى الأجيال القادمة، حفاظًا على حضوره في الذاكرة الثقافية لمنطقة جازان.




