مقالات

جسر الانتماء الخليجي

بقلم – عبير محمد دهام :

تسكن‭ ‬الأوطان‭ ‬في‭ ‬الوجدان‭ ‬قبل‭ ‬أن‭ ‬يسكن‭ ‬الإنسان‭ ‬أرضها‭ ‬وتصنع‭ ‬جزءاً‭ ‬من‭ ‬رؤيته‭ ‬للعالم‭ ‬وتجعله‭ ‬يشعر‭ ‬بأن‭ ‬المسافات‭ ‬أقرب‭ ‬مما‭ ‬تبدو‭. ‬ولهذا‭ ‬تبدو‭ ‬الرياض‭ ‬قريبة‭ ‬من‭ ‬المنامة‭ ‬وتبدو‭ ‬الكويت‭ ‬امتداداً‭ ‬للمحرق‭ ‬وتتقارب‭ ‬معها‭ ‬الدوحة‭ ‬وأبوظبي‭ ‬ومسقط‭ ‬في‭ ‬الإحساس‭ ‬نفسه‭ ‬لأن‭ ‬الروابط‭ ‬الاجتماعية‭ ‬والموروث‭ ‬المشترك‭ ‬أعمق‭ ‬من‭ ‬الحدود‭ ‬المرسومة‭ ‬على‭ ‬الخرائط‭. ‬وبرز‭ ‬هذا‭ ‬المعنى‭ ‬في‭ ‬نجاح‭ ‬القمة‭ ‬الخليجية‭ ‬السادسة‭ ‬والأربعين‭ ‬التي‭ ‬جسدت‭ ‬ما‭ ‬يشعر‭ ‬به‭ ‬الناس‭ ‬من‭ ‬وحدة‭ ‬المصير‭ ‬وترابط‭ ‬الطريق‭.‬

وقد‭ ‬أعادت‭ ‬القمة‭ ‬هذا‭ ‬الشعور‭ ‬إلى‭ ‬الواجهة‭ ‬إذ‭ ‬لمس‭ ‬المواطن‭ ‬أن‭ ‬رسائلها‭ ‬تنسجم‭ ‬مع‭ ‬واقع‭ ‬يعيشه‭ ‬يومياً‭ ‬وأن‭ ‬البيت‭ ‬الخليجي‭ ‬يستند‭ ‬إلى‭ ‬علاقة‭ ‬تتقدم‭ ‬كلما‭ ‬اتسعت‭ ‬مسارات‭ ‬التعاون‭. ‬وازداد‭ ‬الاهتمام‭ ‬بمخرجاتها‭ ‬لأنها‭ ‬عبّرت‭ ‬عن‭ ‬توجه‭ ‬خليجي‭ ‬نحو‭ ‬نهج‭ ‬أكثر‭ ‬تكاملاً،‭ ‬وهو‭ ‬ما‭ ‬جعلها‭ ‬محطة‭ ‬مؤثرة‭ ‬على‭ ‬مستوى‭ ‬الشارع‭ ‬الخليجي‭.‬

ويتضح‭ ‬هذا‭ ‬القرب‭ ‬في‭ ‬الطريقة‭ ‬التي‭ ‬يستقبل‭ ‬بها‭ ‬الناس‭ ‬نجاحات‭ ‬الدول‭ ‬الخليجية‭. ‬فحين‭ ‬تحقق‭ ‬دولة‭ ‬تقدماً‭ ‬في‭ ‬الاقتصاد‭ ‬أو‭ ‬التقنية‭ ‬أو‭ ‬جودة‭ ‬الحياة‭ ‬يشعر‭ ‬أبناء‭ ‬الدول‭ ‬الأخرى‭ ‬بأن‭ ‬هذا‭ ‬التقدم‭ ‬يعنيهم‭ ‬أيضاً‭ ‬لأن‭ ‬الإنجاز‭ ‬في‭ ‬أي‭ ‬عاصمة‭ ‬يترك‭ ‬أثره‭ ‬في‭ ‬المنطقة‭ ‬كلها‭ ‬ويعزز‭ ‬الإحساس‭ ‬بأن‭ ‬الفخر‭ ‬مشترك‭ ‬وأن‭ ‬الطريق‭ ‬واحد‭. ‬وهذا‭ ‬الشعور‭ ‬يقوي‭ ‬جسر‭ ‬الانتماء‭ ‬الذي‭ ‬يجمع‭ ‬الشعوب‭ ‬ويقرب‭ ‬بين‭ ‬المؤسسات‭ ‬ويمنح‭ ‬القرارات‭ ‬الجaماعية‭ ‬دفعة‭ ‬إضافية‭.‬

وأظهرت‭ ‬القمة‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬الخليجية‭ ‬عنصر‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬جعل‭ ‬السياسات‭ ‬المشتركة‭ ‬أكثر‭ ‬قابلية‭ ‬للتنفيذ‭ ‬لأن‭ ‬المواطن‭ ‬حين‭ ‬يرى‭ ‬تقاطع‭ ‬المصالح‭ ‬يتعامل‭ ‬مع‭ ‬القرارات‭ ‬بروح‭ ‬إيجابية‭ ‬ومرونة‭. ‬وهذه‭ ‬النظرة‭ ‬تدعم‭ ‬خطوات‭ ‬التقارب‭ ‬وتمنح‭ ‬برامج‭ ‬التكامل‭ ‬فرصة‭ ‬حقيقية‭ ‬للنجاح‭.‬

ومن‭ ‬الأفكار‭ ‬التي‭ ‬يمكن‭ ‬أن‭ ‬توسع‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬مبادرة‭ ‬يوم‭ ‬الهوية‭ ‬الخليجية‭. ‬فهذا‭ ‬اليوم‭ ‬يمنح‭ ‬أبناء‭ ‬الجيل‭ ‬الجديد‭ ‬فرصة‭ ‬للتعرف‭ ‬على‭ ‬تاريخ‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬ورموزها‭ ‬وإنجازاتها‭ ‬في‭ ‬عرض‭ ‬موحد‭ ‬يبرز‭ ‬عمق‭ ‬الروابط‭ ‬بينهم‭. ‬ويمكن‭ ‬للسفارات‭ ‬إقامة‭ ‬معارض‭ ‬في‭ ‬العواصم‭ ‬الخليجية‭ ‬ودعوة‭ ‬الطلبة‭ ‬لزيارة‭ ‬أجنحة‭ ‬تقدم‭ ‬ملامح‭ ‬حضارية‭ ‬لكل‭ ‬دولة‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬واحد،‭ ‬ويعزز‭ ‬القطاع‭ ‬الخاص‭ ‬هذه‭ ‬المبادرة‭ ‬من‭ ‬خلال‭ ‬الرعاية‭ ‬والدعم‭ ‬وتوفير‭ ‬الإمكانات‭ ‬التي‭ ‬تحولها‭ ‬إلى‭ ‬منصة‭ ‬تعليمية‭ ‬وثقافية‭ ‬تبني‭ ‬جيلاً‭ ‬يعرف‭ ‬جذوره‭ ‬ويتحرك‭ ‬بثقة‭ ‬نحو‭ ‬المستقبل‭.‬

ويظهر‭ ‬أن‭ ‬هذا‭ ‬النوع‭ ‬من‭ ‬المبادرات‭ ‬يلقى‭ ‬اهتماماً‭ ‬متنامياً‭ ‬في‭ ‬المجتمعات‭ ‬الخليجية‭ ‬إذ‭ ‬يجتمع‭ ‬الناس‭ ‬حول‭ ‬ملامح‭ ‬واحدة‭ ‬للثقافة‭ ‬واللغة‭ ‬والعادات‭. ‬ومع‭ ‬أن‭ ‬هذه‭ ‬الجهود‭ ‬تمنح‭ ‬الهوية‭ ‬حضوراً‭ ‬واضحاً‭ ‬في‭ ‬كل‭ ‬دولة‭ ‬إلا‭ ‬أن‭ ‬الحاجة‭ ‬قائمة‭ ‬إلى‭ ‬مظلة‭ ‬تجمع‭ ‬هذه‭ ‬المبادرات‭ ‬في‭ ‬إطار‭ ‬واسع‭ ‬يعزز‭ ‬قيم‭ ‬الانتماء‭ ‬ويقرب‭ ‬التجارب‭ ‬من‭ ‬بعضها‭. ‬فوجود‭ ‬مساحة‭ ‬مشتركة‭ ‬تعبر‭ ‬عن‭ ‬روح‭ ‬الخليج‭ ‬يساعد‭ ‬على‭ ‬تحويل‭ ‬النشاط‭ ‬التراثي‭ ‬من‭ ‬مبادرات‭ ‬متناثرة‭ ‬إلى‭ ‬مشروع‭ ‬متكامل‭ ‬يربط‭ ‬الماضي‭ ‬بالحاضر‭ ‬ويقود‭ ‬الأجيال‭ ‬الجديدة‭ ‬نحو‭ ‬فهم‭ ‬أعمق‭ ‬لهويتهم‭. ‬ومن‭ ‬خلال‭ ‬هذا‭ ‬النهج‭ ‬يمكن‭ ‬ليوم‭ ‬الهوية‭ ‬الخليجية‭ ‬أن‭ ‬يكون‭ ‬منصة‭ ‬تجمع‭ ‬الأعمال‭ ‬الثقافية‭ ‬والفنية‭ ‬والتعليمية‭ ‬تحت‭ ‬رؤية‭ ‬واحدة‭ ‬تبرز‭ ‬قوة‭ ‬الترابط‭ ‬بين‭ ‬دول‭ ‬المجلس‭ ‬وتمنح‭ ‬الانتماء‭ ‬معنى‭ ‬أوسع‭ ‬في‭ ‬الحياة‭ ‬العامة‭. ‬كما‭ ‬يمكن‭ ‬للأمانة‭ ‬العامة‭ ‬لمجلس‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭ ‬دراسة‭ ‬هذا‭ ‬المقترح‭ ‬وتقييم‭ ‬أثره‭ ‬ضمن‭ ‬جهودها‭ ‬لترسيخ‭ ‬الهوية‭ ‬المشتركة‭ ‬وتوسيع‭ ‬مجالات‭ ‬التعاون‭ ‬الخليجي‭.‬

وتكشف‭ ‬تجربة‭ ‬القمة‭ ‬أن‭ ‬الهوية‭ ‬الخليجية‭ ‬لم‭ ‬تعد‭ ‬إطاراً‭ ‬ثقافياً‭ ‬فقط‭ ‬لأنها‭ ‬اليوم‭ ‬عنصر‭ ‬يساعد‭ ‬المجتمعات‭ ‬على‭ ‬مواجهة‭ ‬التحولات‭ ‬ويمنح‭ ‬دول‭ ‬المجلس‭ ‬مساحة‭ ‬أوسع‭ ‬لتنسيق‭ ‬رؤاها‭ ‬المستقبلية‭. ‬فحين‭ ‬يتشكل‭ ‬انتماء‭ ‬مشترك‭ ‬بهذا‭ ‬العمق‭ ‬تتولد‭ ‬طاقة‭ ‬جماعية‭ ‬قادرة‭ ‬على‭ ‬حماية‭ ‬المكتسبات‭ ‬وتعزيز‭ ‬الاستقرار‭ ‬وفتح‭ ‬أبواب‭ ‬جديدة‭ ‬للتعاون‭. ‬ومع‭ ‬هذا‭ ‬الاتجاه‭ ‬تصبح‭ ‬الهوية‭ ‬رافداً‭ ‬يدعم‭ ‬الاستعداد‭ ‬للمستقبل‭ ‬ويمنح‭ ‬العمل‭ ‬الخليجي‭ ‬أرضية‭ ‬صلبة‭ ‬تتحرك‭ ‬عليها‭ ‬المبادرات‭ ‬القادمة‭ ‬بثقة‭ ‬أكبر‭.‬

وفي‭ ‬النهاية‭ ‬يبقى‭ ‬الخليج‭ ‬أكثر‭ ‬من‭ ‬جغرافيا‭ ‬فهو‭ ‬شعور‭ ‬ينشأ‭ ‬في‭ ‬القلب‭ ‬ويترجم‭ ‬في‭ ‬السلوك‭ ‬ويجعل‭ ‬المدن‭ ‬تبدو‭ ‬كأنها‭ ‬بيت‭ ‬واحد‭ ‬ومصير‭ ‬واحد‭. ‬وهذا‭ ‬الشعور‭ ‬هو‭ ‬مصدر‭ ‬قوة‭ ‬المنطقة‭ ‬اليوم‭ ‬وهو‭ ‬الذي‭ ‬يجعل‭ ‬المستقبل‭ ‬أكثر‭ ‬وضوحاً‭ ‬حين‭ ‬تتقدم‭ ‬دول‭ ‬الخليج‭ ‬بخطوات‭ ‬متقاربة‭ ‬نحو‭ ‬غد‭ ‬يحمل‭ ‬فرصاً‭ ‬أوسع‭ ‬واستقراراً‭ ‬أكبر‭ ‬وهوية‭ ‬لا‭ ‬تنفصل‭ ‬عن‭ ‬أبنائها‭.‬

(مهتمة‭ ‬بالحوكمة‭ ‬وتطوير‭ ‬الأداء‭ ‬المؤسسي)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى