صناعة الأسطورة في قصة قصيرة … محمد عطوة نموذجا
عاطف عبد العزيز الحناوي
لا شك أن كل أديب له وجهة نظر للحياة والكون من حوله, و هذه النظرة تعد شهادة إبداعية من الأديب , نحو الذات و الإنسان والأرض والوطن .
والمبدع الصادق هو الأقرب لرصد علاقات مجتمعه بتاريخه في حقبته الزمنية / حياته التي يعيشها , و يبدع منفعلا بها و فاعلا لها .. و الرصد لا يكون سبيله المحاكاة بالمعنى الأرسطي , الذي يطابق فيه الفنُّ الحياة , و إنما هو تفاعل خلاق , فهو ليس تصويرا فوتوغرافيا , و إنما فنا تشكيليا , و لا يخفى ما بينهما من اختلافات مهمة , و على ذلك يكون الفن أكثر خلودا من الحياة نفسها , و هذه مهمة و مسئولية الأديب الحق .
و يأتي حديثي عن المجموعة القصصية ( وشم السكوت ) للأديب “محمد عطوة” , و التي ندرك بدءا من العنوان و كذلك فوزها بجائزة إبداعية عربية كبرى – جائزة الشارقة للإبداع العربي – ندرك أننا بصدد كاتب مهم و مثقف كبير .
الوشم ينبؤنا بحالة من التراثية الشعبية , و أثر الوشم لا ينمحي على مر الزمان إلا بصعوبة و قسوة بالغة , و نرى حتى في عناوين القصص و التبويبات العامة , تلك الحالة نفسها , من الانعماس في الثراث السحيق , مع الرغبة بل و محاولة التمرد و الخروج عليه في الوقت نفسه , نرى مثلا تبويبا عاما بعنوان ” برديات ” و تحت هذا العنوان اللافت نرى عناوين هي ( كلمة سر الليل – وشم السكوت – القضية المؤجلة – شجرة الصفصاف – كريمة – اعتصام – المواجهة ) كما نرى تبويبا عاما ” دراما الأبعاد الخمسة ” و تحته عناوين تشي بحالة من التردد و الصراع , الذي يؤدي حتما إلى الثورة في النهاية ( رمادية – تردد – مقاومة – إصرار – ثورة ) و هي خمس قصص كما نرى .. كاتبنا إذن يعرف ماذا يريد أن يقول , و لديه وعي بعمله الإبداعي بشدة .
و ها أنا أتحدث , عن هذه المجموعة القصصية الأصيلة فنيا و فكريا , و الأصالة لا تعني القِدم بل هي تدل على الإتيان بفكرة مبتكرة , و تدل على القوة في السبك , و استقصاء البحث نحن إذن بإزاء ابتكار و قوة سبك و استقصاء تميز بهم الأديب “محمد عطوة” و تميز بهم أدبه , و لذلك فقد آثرت الحديث عن ملمح واحد في قصة واحدة , ألا و هي قصة ( كريمة ) تحت التبويب العام ( برديات ) .
في هذه القصة تتجلى صناعة الأسطورة بدرجة كبيرة , و الأسطورة و لا شك تتأبى على التعريف الجامع المانع , و لكن إذا رجعنا إلى المعنى المذكور في القرآن الكريم ( أساطير الأولين ) لوجدنا المقصود من قول هؤلاء الكافرين إنما هو قصص و تاريخ القدماء , بعد أن اختلطت الوقائع الحقيقية , بالكثير من الخيال و التشوه , بفعل ضباب الأزمان , أو قل أصابها قليل أو كثير من الانزياح عن الأصل الواقعي , و في ذلك يقول الأستاذ “أحمد كمال زكي” : ربما إذا استفتينا فريزر و سائر الأنثروبولوجيين , نجد ما نريد من العلم , حتى على رغم إيماننا بأن الأسطورة تقوم على تحريف الواقع , و لقد فطن يوهيموروس – و هو شاعر يوناني عاش في القرن الرابع قبل الميلاد – إلى الجوانب التاريخية في الأسطورة , و قرر أنها عادة تاريخ مبتكر , و ما أوليس – أوديسيوس – مثلا إلا بطل من الأبطال الحقيقيين , عاش و حارب ثم رحل , ثم تجمع حوله ضباب الزمن , و ما شخصية “سيف بن ذي يزن” و غيره إلا نماذج حقيقية , رفعتها حياتها إلى مرتبة الأبطال و ما قصة عبادة و تأليه ” يغوث و يعوق و نسرا ” – التي ورردت في القرآن الكريم و تفصيلها في كتب التفسير – منا ببعيد ! .
و لا يخفى ما في القرآن من إبداع رباني , و قصص القر آن هو ” القصص الحق ” و حسبنا أن نبدع على نسقه و أن نتنسم عبيره الفواح , و حسب المبدع حكمة و جمالا و جلالا , أن يتصف بالصفات الربانية على قدر الطاقة البشرية , كما يقول ” إخوان الصفا ” .
عودة إلى ” كريمة ” ..
القصة تحكي عن تلك الفتاة القروية التي هي ( يد العائلة و رجلها و بسمتها الرائقة ) و يموت جدها و تكثر الأسئلة حول من قتله أو ما قتله ( وجد جدها مقتولا فوق كرمة العنب و عقول أفراد العائلة أسئلة حيرى .. قتله النهر , قتلته الغربان الصابئة الضالة .. لا بل قتلته الأرض الظامئة للارتواء ) لكن كريمة ( خضبت يدها و خديها بالزعفران المنساب على حجر الأرض و قالت : قتله صاحب الجرار ! ) .. كريمة هي الوحيدة التي تدرك الحقيقة ببصرها و بصيرتها , أو لنقل عقلا و وجدانا , و لذا فهي تحاول الانتقام من صاحب الجرار ( قفزت و حطت على صاحب الجرار, الذي فقد سيطرته على المقود , تخبط بين الشمال و الجنوب ثم سقط الجميع في النهر ) أتساءل : لماذا قال الأديب : ” بين الشمال و الجنوب ” و لم يقل ” يمينا و يسار أو شرقا و غربا ” أهو صراع إقدام و إحجام أم أنه تصوير للصراع بين دول الشمال و دول الجنوب ؟ … أعني : هل لذلك دلالة سياسية أو نفسية ما ؟ و وقعت مصيبة فقد كريمة غريقة في النهر , نحن هنا أمام حالتين من الفقد : فقد الجد ثم فقد كريمة , و لكن ماذا بعد الفقد ؟! هل نحيا حياة الفقد و الهزيمة إلى الأبد ! .. ( غاص أفراد العائلة – الذين جمعتهم المصيبة – يجوبون قاع النهر بحثا عن كريمة , فلم يجدوها , لكنهم عندما ذهبوا إلى حقلهم في الصباح طالعتهم سنابل القمح خضراء ) .. و كأن ممارسة الحب و الحصاد , وقضاء حوائج الناس , و التضحية من أجل الآخرين , تعكس جوهر الحياة بطرق مختلفة .. و في هذا السياق تأتي تضحية كريمة بنفسها , تلك التضحية التي تتناص بقدر كبير مع الأسطورة الفرعونية عن “عروس النيل” , تلك الفتاة الجميلة التي يقذفونها في النيل , قربانا , كي يجود على الوادي بالخير العميم , يقول “محمد عطوة ” في ذلك : ( العلاقة بين كريمة و النهر علاقة حتمية , فالنهر لا يفيض إلا إذا نام في حضن كريمة , و كريمة لا تنجب إلا إذا تخضبت بحنّاء النهر ) فقد كانت حقول العائلة لا تنبت قمحا .. يقول “محمد عطوة” : ( الحقل الشاسع .. أرضه خصبة و به أنهار و آبار , لكنه لا يثمر قمحا .. زرعوه سؤالات شتى , فلم تجب الأرض السؤال ) .. و من الأشياء اللافتة في النص تكرار لفظة السؤال غير مرة و كان السؤال بلا إجابة , و كأننا أمام حالة من الحيرة غير المجدية أوغير الفاعلة ( زرعوه سؤالات شتى فلم تجب الأرض السؤال / و عقول أفراد العائلة أسئلة حيرى ) كانت كل الأسئلة محيرة , و بلا إجابة , بل و لا محاولة للإجابة , حتى جاءت لحظة التضحية لتجيب عن الأسئلة الحيرى , و تكشف اللثام , و تطلع سنابل القمح بفضل تضحية كريمة , تلك الشخصية التي أدركت الداء , و بيدها كان الدواء ..
موضع آخر للتأثر / التناص مع الأسطورة , هو التناص مع “نرسيس” ذلك الفتى الجميل الوجه , و الذي عشق نفسه , حينما رأى صورته منعكسة , على صفحة الماء , و قد صار مضرب المثل لحب الذات / النرجسية , و لكن “محمد عطوة” لعب على الأسطورة , و أعاد خلقها من جديد , في صورة مغايرة للأصل ,
يقول : ( يعكس النهر وجه كريمة الصبوح , فيظهر للماشي على السكة ابتسامة عريضة , على وجه النهر ) و يقول : ( تلتفت كريمة يمينا و يسارا , فلا ترى أحدا , ترفع جلبابها و تغازل النهر , تغشى طبقاته الأولى , حتى يقترب النهر من كشف أسرارها , فتكف يده الشقية , و تداعب روعة سريانه , بينما يكتفي هو بتملي وجهها الصبوح ) .. النهر في علاقته بنرسيس كان سلبيا / مرآة فقط .. فإن الفتى هو الذي عشق صورة وجهه المنعكسة على صفحة الماء , و لكنّ النهر هنا – في نص محمد عطوة – صار منفعلا بل و لاعبا أساسيا في الحدث الدرامي , و ليس مجرد مرآة , لا دور لها سوى الانعكاس ! .
و ثمة استدعاء , أو لنقل خلق جديد , لشخصية “الجنية /النداهة” , المشهورة في الريف المصري , تلك الجنية التي تغوي العابرين بصوتها و شكلها الجميل , و تصيبهم بالجنون , و لكن “محمد عطوة” يقول : ( قال الفتى عمران : أنه ذهب ليستحم في ماء النهر , وقت القيلولة , تحت شجرة الصفصاف , رأى كريمة تلبس فستانا أبيض , و تمسك بمشط ذهبي .. تارة تمشط به شعرها الأسود , و تارة أخرى شعر شجرة الصفصاف ) و لكأني بالعقلية الأسطورية للأديب , تتجلى هنا , و لعلها نفس العقلية التي خلقت آلهة , من أشخاص صالحين / يغوث و يعوق و نسرا .. فكأني بالأديب يقوم بشيئين في وقت واحد , أولهما إضفاء مسحة من القداسة أو تحويل شخصية و نموذج بشري , تمر به أحداث و صراع ما , إلى شخصية أسطورية , تنسج حولها الخيالات , فالخيال الشعبي يجنح نحو التقديس و التمجيد الأسطوري , فالأديب يمثل و يعبر عن انطلاقة اللاوعي الجمعي , في تحليلاته الدرامية للرؤية و التشوّف , و السيكلوجية الجماهيرية ” و الأمر الثاني هو إضفاء الحياة على الجمادات , بما يجسد انفعال الأديب بالكون من حوله , و هي نزعة رومانسية بل و إنسانية خالدة , فها هو النهر و ها هي شجرة الصفصاف , كأنهما شخصان حقيقيان , لهما دور في الأحداث القصصية , كما أن ذلك يؤكد على ما ذهبت إليه من بناء “محمد عطوة” للأسطورة في نصه القصصي , و يؤكده أيضا ما قرأناه من تفسيرات أسطورية لأحداث واقعية بسيطة – ألم يجنح العقل الأسطوري إلى تفسير ظاهرة “صدى الصوت” على أنه تكرار للصوت تكرره الجنيات ؟ و أيضا ألم يفسر القدماء تكون الكهف في سفح جبل إنياس / البطل الطروادي على أنه كان صخرة اجتثها هرقل و ألقى بها في النهر, الذي انكمش مذعورا و ارتجت الشطآن !
تقوم الأسطورة أساسا على فكرة الصراع الوجودي , بين الخير و الشر, بين الجمال و القبح , و الحق و الباطل , و بين التضحية و الأثرة , و كما يقول الدكتور مختار أبو غالي : ( أن جيمس فريزر في ” الغصن الذهبي ” جعل الفرد و الأرض بؤرتين توأمين , في معركة لا متناهية , من أجل استمرار الحياة , و هذا موضوع لا ينفد , و بالغ الخطورة بالنسبة للأدب الحديث .. بل و القديم أيضا – من وجهة نظري – فالشعر الجاهلي مثلا , يعبر عن تلك المعركة الوجودية , بين الإنسان و عوامل البيئة و الزمان , التي تحاول قهره فيقهرها أو تقهره , و قد تحدث طه حسين – عميد الأدب العربي – عن ذلك في “حديث الأربعاء” و تحدث عنه غير واحد من النقاد و الأدباء – و الله أعلم ) .
و ثمة نزعة قومية واضحة بشدة , في نص الأستاذ “محمد عطوة” بل و في نصوصه جميعا – قصا و شعرا – و مصداق ذلك ديوان ” فولدر وهمي ” لأديبنا “محمد عطوة” أيضا , و هو ديوان يمتلئ بالهم الوطني , و القومي في لغة شعرية صادقة شفيفة – من وجهة نظري – فهو تواق للتوحد بين الأخوة , الذين كل منهم ( بنى حول بيته سورا له باب من حديد صلب ) و رغم ذلك ( يلتقي الجميع عند الحقل , الذي ورثوه عن جدهم الأكبر ) … و لا يخفى ما في جملة ” سور له باب ” من تأثر بالقرآن الكريم , ذلك السور الذي ( في باطنه الرحمة و من ظاهره من قبله العذاب ) كما قال له في سورة “الحديد” .
كما نلمح فكرة البطل المهزوم , أو الذي ينتظر , و يحلم بلحظة الانطلاق / الانعتاق .. هذا التأرجح ببين اليأس و الأمل , و قضية السلام و الحرب مع العدو الصهيوني ( قصة المواجهة مثلا ) , و تظهر اللغة التي يختلط فيها الحلم مع الواقع , في لغة شعرية سيريالية , تدخلك في قلب الحزن و الصراع , حتى لكأنك تعيش حالة بطل القصة المتمزق و المحبط ( وشم السكوت مثلا ) .
و ثمة تساؤل صغير , حول جدوى تقسيم أو عنونة المقاطع , داخل القصة على هذا النحو ( استهلال لابد منه – فقرة أولى – مداخلة قسرية – فقرة ثانية – فقرة ثالثة و أخيرة – تذييل ) هل هذه التقسيمات ضرورة أم يمكن الاستغناء عنها , دون الإخلال بالسياق القصصي المحكم ؟!
أخيرا أقول : أننا أمام أديب يبدع من خلال استراتيجية , تمزج العقل بالوجدان , فإن نصوصه الإبداعية هي ثمرة تفاعل خلاق , بين المعرفة و الخيال الخصب و الوجدان , حيث يتوحد الواقع و الخيال في كينونة واحدة , أو لنقل سبيكة واحدة , يصعب فصلها , و يقدّر في السرد , كما قال الله سبحانه في كتابه العزيز ( و قدّر في السرد ) هذا التقدير إحكام و أصالة , فهو في عمله الإبداعي يدعم التقاليد و الموروثات , و يضفي عليها قيما أكبر و مكانة أرفع و أسمى من الحقيقة , كما يقول عالم الأنثروبولوجيا البولندي “برونيسلاف مالينوفسكي” في معرض حديث له عن وظيفة الأساطير.
كانت هذه خواطر , دفعتني إليها إبداعات الأستاذ ” محمد عطوة ” , و حُق لعمل إبداعي رصين أن يمنحك لحظات من التأمل , و المزيد من القراءة و البحث في بحار المعرفة التي لا نهاية لها .
- الإسكندرية ..
المراجع :
- القرآن الكريم
- ( الحياة و الشاعر .. ستيفن سبندر )
- ( المعجم الوجيز – مادة ” أصل ” .. بتصرف )
- ( تجليات سرد الحياة – قراءة في أدب نجيب محفوظ .. محمد عطية محمود .. بتصرف )
- ( الأساطير .. أحمد كمال زكي .. بتصرف)
- (أغاني الضمة في بورسعيد .. د / محمد شبانة .. بتصرف )