ثقافة

ابن الجوزي يُشرِّحُ عصرنا الحالي تشريحا خطيرا)!!

 

محمد خضر

محمد خضر الشريف

منذ بضع وثلاثين عاما عشت مع العلامة ابن الجوزي سنين عددا في تحقيق مخطوطه ” شذرات العقود في تاريخ العهود” المسمى “مختصر المنتظم”،وذلك أيام رسالة الماجستير، وكُشف لي من مؤلفاته الشيء الكثير، مما كان خفيا عني وعن كثير من الناس، ومنها هذا الكتاب الجميل في تأليفه الفريد في نوعه وهو”صيد الخاطر” ..
وهو كتاب سجل فيه ابن الجوزي كل ما يعترضه من خاطرة تهب على فكره في ليله أونهاره، فيعتبرها صيدا ثمينا، إن لم يقيدها بالكتابة شردت شرود الابل السائبة من عقلها وربما بدون رجعة ، فتراكمت هذا الخواطر في هذا الكتاب الجميل الذي يعرف من عنوانه..

وإليكم تلك الخاطرة التي تعبر بصدق عما عايشه ابن الجوزي في عصره وهو تشريح عام لعصره ومن فيه من طوائف المجتمع، وكأن هذا الإمام الهمام يُشّرِّح عصرنا الذي نعيشه، بتفاصيل لاتختلف كثيرا..
ولنعش مع الخاطرة الي اقتنصها وسجلها في صيده الثمين “صيد الخاطر” تحت عنوان: ” اغتنم شبابك قبل هرمك”..

يقول رحمه الله :

“تأملت الأرض ومن عليها بعين فكري، فرأيت خرابها أكثر من عمرانها.

ثم نظرت في المعمور منها فوجدت الكفار مستولين على أكثره، ووجدت أهل الإسلام في الأرض قليلاً بالإضافة إلى الكفار.

ثم تأملت المسلمين فرأيت المكاسب قد شغلت جمهورهم عن الرازق، وأعرضت بهم عن العلم الدال عليه. فالسلطان مشغول بالأمر والنهي واللذات العارضة له، ومياه أغراضه جارية لا شكر لها. ولا يتلقاه أحد بموعظة بل بالمدحة التي تقوي عنده هوى النفس.

وإنما ينبغي أن تقاوم الأمراض بأضدادها. كما قال عمر بن المهاجر: قال لي عمر بن عبد العزيز: إذا رأيتني قد حدت عن الحق فخذ بثيابي وهزني، وقل: مالك يا عمر ؟

وقال عمر بن الخطاب : رحم الله من أهدى إلينا عيوبنا فأحوج الخلق إلى النصائح والمواعظ، السلطان.

وأما جنوده فجمهورهم في سكر الهوى، وزينة الدنيا، وقد انضاف إلى ذلك الجهل، وعدم العلم، فلا يؤلمهم ذنب، ولا ينزعجون من لبس حرير، أو شرب خمر، حتى ربما قال بعضهم: إيش يعمل الجندي، أيلبس القطن ؟ ثم أخذهم للأشياء من غير وجهها، فالظلم معهم كالطبع. وأرباب البوادي قد غمرهم الجهل، وكذلك أهل القرى. ما أكثر تقلبهم في الأنجاس وتهوينهم لأمر الصلوات، وربما صلت المرأة منهن قاعدة. ثم نظرت في التجار، فرأيتهم قد غلب عليهم الحرص، حتى لا يرون سوى وجوه الكسب كيف كانت، وصار الربا في معاملتهم فاشياً، فلا يبالي أحدهم من أي تحصل له الدنيا ؟ وهم في باب الزكاة مفرطون، ولا يستوحشون من تركها، إلا من عصم الله. ثم نظرت في أرباب المعاش، فوجدت الغش في معاملاتهم عاماً، والتطفيف والبخس، وهم مع هذا مغمورون بالجهل. ورأيت عامة من له ولد يشغله ببعض هذه الأشغال طلباً للكسب قبل أن يعرف ما يجب عليه وما يتأدب به. ثم نظرت في أحوال النساء، فرأيتهن قليلات الدين، عظيمات الجهل، ما عندهم من الآخرة خبر إلا من عصم الله. فقلت: واعجباً فمن بقي لخدمة الله عز وجل ومعرفته؟

فنظرت فإذا العلماء، والمتعلمون، والعباد، والمتزهدون. فتأملت العباد، والمتزهدين فرأيت جمهورهم يتعبد بغير علم، ويأنس إلى تعظيمه، وتقبيل يده وكثرة أتباعه، حتى إن أحدهم لو اضطر إلى أن يشتري حاجة من السوق لم يفعل لئلا ينكسر جاهه. ثم تترقى بهم رتبة الناموس إلى ألا يعودوا مريضاً، ولا يشهدوا جنازة، إلا أن يكون عظيم القدر عندهم. ولا يتزاورون، بل ربما ضن بعضهم على بعض بلقاء، فقد صارت النواميس كلأوثان يعبدونها ولا يعلمون. وفيهم من يقدم على الفتوى وهو جاهل لئلا يخل بناموس التصدر ثم يعيبون العلماء لحرصهم على الدنيا ولا يعلمون أن المذموم من الدنيا ما هم فيه، إلا تناول المباحات. ثم تأملت العلماء المتعلمين، فرأيت القليل من المتعلمين عليه أمارة النجابة، لأن أمارة النجابة طلب العلم للعمل به. وجمهورهم يطلب منه ما يصيره شبكة للكسب، إما ليأخذ به قضاء مكان أو ليصير به قاضي بلد، أو قدر ما يتميز به عن عن أبناء جنسه لم يكتف. ثم تأملت العلماء فرأيت أكثرهم يتلاعب به الهوى ويستخدمه، فهو يؤثر ما يصده العلم عنه، ويقبل على ما ينهاه، ولا يكاد يجد ذوق معاملة الله سبحانه، وإنما همته أن يحدث وحسب”.
(انتهى)

img_2676 img_2677

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى