مقالات وآراء

العمل الخيري قوام الأمن الفكري

بقلم / د.عبدالله بن معيوف الجعيد

أصبح العمل الخيري في عصرنا الحالي واحدًا من الأنشطة المهمة التي تسهم في نمو المجتمعات ونهضتها، وضرورةً حتمية لتحقيق الأمن الفكري لما يشتمل عليه العمل الخيري من مقومات تجفف منابع الانحرافات الفكرية التي منها فشو الجهل، والفاقة، والعجز عن تأمين الضروريات فضلا عن الحاجيات، فيأتي العمل الخيري بأنشطته المتنوعة من تأمين الغذاء إلى توفير الدواء إلى دعم التعليم وغير ذلك صمام أمان للفقراء والمنكوبين يحميهم بعد توفيق الله من الانحرافات الفكرية والسلوكية، ويعزز في نفوسهم الولاء والحب للقائمين على الأنشطة الخيرية والداعمين لها أفرادا، ومؤسسات ودولا، وإن أهمية العمل الخيري لتزداد في المجتمعات يومًا بعد يوم، وخاصةً في ظل اتساع الفجوة بين قدرات كثير من الدول ومواردها وبين احتياجات مواطنيها فضلا عن الوافدين إليها، وقد برز دور القائمين بالعمل الخيري – أفرادا ومؤسسات – في سد هذه الفجوة من خلال الخدمات المتنوعة التي يقدمونها للمستهدفين مساندين بذلك للحكومات في توفير متطلبات الاستقرار، وتأمين مستلزمات الحياة الكريمة لرعاياها من المواطنين وغيرهم، فمع المستوى العالي من التعقيد الذي تشهده الظروف الحياتية للمجتمعات، أصبحت احتياجات الشعوب متغيرة بصفة مستمرة تفوق قدرات كثير من الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، فكان وجود جهات غير حكومية يمكنها أن تساعد الحكومات وتكمل دورها في تلبية احتياجات رعاياها ضرورة حتمية، ومصلحة مرعية لا تقل أهمية عن وجود القطاعات الحكومية التي هي قوام الدولة، وأساس بقائها، وتتمثل تلك الجهات بصورة أساسية في المنظمات والأنشطة الخيرية الذي تقوم عليه مؤسسات المجتمع المدني والجمعيات الأهلية.

وقد أظهر المهتمون في تنمية المجتمعات أن التعاون بين المنظمات الحكومية ومنظمات القطاع الخيري يمكنه أن يسهم في مواجهة التحديات والمشاكل الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تواجه مختلف الدول على المستوى العالمي، وقد رصد المهتمون أن دور المنظمات الخيرية في الكثير من الأحيان يكون سباقًا في معالجة القضايا الاجتماعية والفكرية والثقافية والاقتصادية وغيرها في المجتمعات، ولا يقتصر على الجهود التكميلية لدور الحكومات في معالجة هذه القضايا، وذلك لما أصبح عليه هذا القطاع من التنظيم العالي وما يمتلكه من برامج تنموية أصبحت جهات حكومية تحذو حذوها، الأمر الذي من شأنه أن يسهم وبصورة فعالة في تحقيق الاستقرار والأمن للمجتمعات في مختلف المجالات.

ونظرًا للتطور الواضح الذي يشهده العمل الخيري في عصرنا الحالي في مفهومه ووسائله وأهدافه، أصبح يهتم بمعالجة قضايا أكثر تعقيدًا بالمقارنة مع القضايا التي كان يهتم بمعالجتها في السابق، ومن هذه القضايا الحساسة والتي تؤثر على المجتمعات باختلافها بصورة سلبية قضية الأمن الفكري، حيث أصبحت هذه القضية واحدة من القضايا المهمة التي تؤثر على المجتمعات في عصرنا الحالي، وخاصةً في ظل الانفتاح الكبير الذي تشهده الثقافات المحلية على الثقافات العالمية وما يدخل إليها من أفكار قد تتعارض وبصورة كبيرة مع معتقدات المجتمعات المحلية والقيم التي تؤمن بها، الأمر الذي قد يتسبب في وقوع أزمات يمكنها أن تؤثر بصورة خطيرة على البنية الاجتماعية والثقافية والفكرية لهذه المجتمعات.

فالأمن الفكري قضية على درجة عالية من الأهمية، لكونه يرتبط بحماية الفكر البشري من الانجراف خلف الأفكار المنحرفة التي تسعى إلى إبعاده عن الضوابط الاجتماعية والشرعية، ويسعى إلى الحفاظ على المعتقدات الدينية والثقافية وتحقيق أعلى درجات الطمأنينة في مختلف مجالات الحياة، ويعتبر الأمن الفكري واحدًا من فروع الأمن وأهم أركان بنائه، حيث لا يمكن أن تقوم حضارة وتنمو إلا بما يحمله أبناء المجتمع من أفكار ومعتقدات، فإذا سلمت هذه الأفكار والمعتقدات تحقق للمجتمع الأمن بأسمى معانيه، وبما أن الأمن من المطالب الأساسية لأي مجتمع فإن الأمن الفكري هو أهم أنواع هذا الأمن وأخطرها فتحقيق الأمن الفكري يرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحقيق مختلف أنواع الأمن الأخرى، وتحقيقه يؤدي تلقائيًا إلى تحقيق أنواع الأمن الأخرى؛ فإن الإنسان أسيرٌ لأفكاره ومعتقداته، وكل ما يصدر عنه من تصرفات وسلوكيات ما هو إلا صدًى لما يحمله من الفكر، وبالنظر إلى طبيعة العمل الخيري وأهدافه، فإنه يظهر – وبما لا يدع مجالًا للشك – مدى أهمية العمل  الخيري ورعاية الدولة ودعمها وتسهيلها له في تكوين الأمن الفكري وتعزيزه في المجتمعات، فالعمل الخيري وما ينضوي عليه من القيم السامية التي تؤثر على المجتمع بصورة إيجابية يعد نشاطا مهمًا جدا في بناء الأمن الفكري للمجتمعات، وذلك من خلال الأفكار الإيجابية التي تنغرس في أذهان العاملين في القطاع الخيري والمستفيدين منه سواء، فالقائمون عليه يشعرون بالمسؤولية تجاه مجتمعاتهم وواجباتهم نحوها بما في ذلك تعزيز الأمن الفكري لدى أفراد المجتمع، أما المستفيدون منه فيشعرون بالمحبة والولاء لمجتمعهم الذي لم يتركهم يصارعون مشاكلهم ويعانون منها منفردين من غير مد يد العون والمساعدة لهم.

وللقيم التي يغرسها العمل الخيري في المجتمع أثر مهم في بناء وتعزيز الأمن الفكري لأفراده؛ حيث تشكل المنظمات الخيرية والقائمون عليها رمزًا ثقافيًا إيجابيًا يسهم في تعزيز القيم والمثل العليا للمجتمع من خلال تحقيق مبادئ التعاون والتكافل بين أفراده على اختلاف طبقاتهم، كما أن العمل الخيري يسهم في تقوية الروابط الاجتماعية بين أفراد المجتمع، الأمر الذي من شأنه أن يحارب الترويج لأي أفكار أو معتقدات سلبية تتنافى مع قيم المجتمع ومعتقداته وتهدد أمنه واستقراره وترابطه، فمثل هذه الأفكار والمعتقدات يمكن لها أن تنتشر بصورة سريعة إذا فقدت المجتمعات القيم المثلى التي يغرسها العمل الخيري في المجتمع وفي نفوس أبنائه.

وللوصول إلى أعلى درجات الأمن الفكري في المجتمع، فإنه يلزم جميع القطاعات العاملة فيه وفي مقدمتها منظمات العمل الخيري أن تعمل على غرس القيم الإيجابية والمثل العليا في نفوس أبناء المجتمع في جميع المستويات ولمختلف الفئات العمرية، فالمجتمعات اليوم بحاجة ماسة إلى أن يحوز أبناؤها القوة الفكرية التي تحميهم من الانحراف الفكري والانقياد للمعتقدات التي قد تهدد أمن المجتمع وتماسكه، وقدرة العمل الخيري على تعزيز الأمن الفكري تنبع من أثره في غرس الانتماء للمجتمع والإحساس بمشاكله في نفوس أبنائه، وذلك من خلال ما يبذله القائمون عليه من جهود وأموال في سبيل مواجهة المشاكل التي يعاني منها المجتمع والعمل على علاجها بصورة صحيحة.

وختامًا فإن التوعية بأهمية العمل الخيري والحث على المشاركة فيه من خلال الوسائل المختلفة سواء في البيت أم في المدرسة أم في المسجد أم في وسائل الإعلام، ودعم الدول له، وتيسير سبله من الأمور التي من شأنها أن تسهم في حماية الأمن الفكري للمجتمع من خلال ما تغرسه الأعمال الخيرية من قيم إيجابية في نفوس كل من المشاركين فيها والمستفيدين منها، والتي تسهم في حماية أبناء المجتمع فكريًا من مختلف المشاكل والقضايا التي يتعرضون لها في حياتهم اليومية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى