تركيا تودع عملاق الإقتصاد صبري أولكر
اسطنبول- سويفت نيوز:
ودَّعت تركيا يوم الأربعاء الماضي في مدينة إسطنبول عملاقًا من عمالقة الاقتصاد التركي، ودَّعت السيد صبري أولكر، مؤسس شركة أولكر للأغذية، الذي وافته المنية يوم الثلاثاء عن عمر يناهز 92 عامًا، قضى معظمه في سبيل تحقيق حلمه، وهو أن يحصل كل طفل، سواء كان غنيًّا أو فقيرًا، على قطعة من البسكويت والحلويات والشوكولاته ليستمتع بها.
هذا الحلم راود السيد صبري أولكر بعد أن عاش في صغره معاناة قاسية، حيث ولد عام 1920 في جزيرة القرم في أسرة بسيطة، وشاهد شيئًا كثيرًا من ظلم الاحتلال الروسي وتهجير الأسر المسلمة كبارًا وصغارًا من جزيرة القرم إلى سيبيريا وأعماق آسيا الوسطى قسرًا تحت تهديد السلاح، وقرر والده الهجرة إلى تركيا، ووصل صبري الصغير مع أسرته إلى إسطنبول عام 1929 على متن باخرة، وهكذا فُتِحَتْ في حياته صفحة جديدة. وفي المرحلة الابتدائية عمل في مصنع للبسكويت خلال إجازات الصيف، ولعله في أثناء عمله بذاك المصنع بدأ يفكر في تصنيع البسكويت.
وأتم صبري أولكر الابتدائية في إسطنبول، والمتوسطة في بيلاجيك والثانوية في كوتاهيا، وكان يحلم بأن يصبح مهندسًا، ولكن الظروف لم تسمح له بذلك، وعندما التحق بكلية السلطان أحمد للعلوم التجارية والاقتصادية كانت الحرب العالمية الثانية قد اندلعت، ونسي معظم الأطفال طعم البسكويت في تلك السنوات، وقرر الشاب صبري أن يقدِّم لهؤلاء الأطفال طعم البسكويت من جديد ليعيد إليهم الفرحة والبهجة، واشترى مع أخيه الكبير عاصم أولكر ورشة عمل صغيرة في منطقة أمينونو التاريخية عام 1944م لتصنيع البسكويت، وكانت تلك الورشة الصغيرة نقطة انطلاق شركة أولكر العملاقة التي أصبحت اليوم ماركة عالمية، والتي بدأت عملها بثلاثة عمال فقط ليصل اليوم إلى أكثر من ثلاثين ألف عامل وموظف يعملون في شركات أولكر المختلفة.
عاش السيد صبري أولكر حياة هادئة بخلاف كثير من الأغنياء ورجال الأعمال، ولم يكن يحب الظهور في وسائل الإعلام المرئية والمقروءة، ولا التباهي بما يفعله من الأعمال الخيرية، ولا توجد له صور كثيرة، وأما زوجته السيدة غوزيدة أولكر التي توفيت في (أيلول) سبتمبر 2010 فلم أجد لها صورة واحدة؛ لأن حياتهما كانت بعيدة عن الكاميرات وأضواء الحفلات وصخب الملاهي، وكان أكثر ما يستمتع به السيد صبري أن يرى نجاح شركته يكبر يومًا بعد يوم. وواظب على عمله إلى أن بلغ عمره 80 عامًا ليترك رئاسة مجموعة شركات أولكر إلى نجله مراد أولكر عام 2000.
لم تكن شركة أولكر مدعومة من مؤسسات الدولة، بل كانت وما زالت مصَنَّفة لدى المؤسسة العسكرية ضمن الشركات الإسلامية التي لا يسمح لها ببيع منتجاتها في المقاصف والمتاجر العسكرية. وهذا الأمر آلم السيد صبري طوال حياته؛ لأنه كان يرى منتجات شركته تباع في الأسواق والمتاجر المنتشرة في أنحاء العالم، ولكن جيش بلاده يحرمها من البيع في داخل المؤسسات العسكرية وكأنها منتجات العدو.
ومما تميز به السيد صبري أولكر ابتعاده عن الخوض في النقاشات السياسية وانشغاله بأعمال شركته، وكان معروفًا بتدينه وحبه للأعمال الخيرية خاصة في مجال التعليم، وكان يحظى باحترام معظم الجماعات الإسلامية وعموم الشعب التركي. ويذكر أنه فتح بيته لإيواء الأستاذ فتح الله كولن عندما كان الأخير ملاحقًا بعد انقلاب 1980 العسكري.
شركة أولكر رغم تدين صاحبها وتصنيفها من قبل العلمانيين المتطرفين ضمن الشركات الإسلامية التي تجب محاربتها ومقاطعة منتجاتها، لم تستغل الشعارات الدينية في ترويج منتجاتها، ولم تقل يومًا من الأيام للمواطنين المتدينين ”اشتروا منتجاتنا لدعم شركتنا”، كما يفعل البعض لترويج منتجات شركته الرديئة بحجة أنها ”إسلامية”، وإنما اعتمدت على جودة منتجاتها وأسعارها المناسبة للجميع، بالإضافة إلى الإعلانات التجارية وشبكة توزيع واسعة لتوفير منتجاتها في جميع أنحاء البلاد بسعر المصنع.
السيد صبري أولكر- رحمه الله- بدأ عمله من الصفر في ورشة عمل لا تتجاوز مساحتها مائة متر مربع، وأسس شركة أولكر للأغذية، وواصل ليله بنهاره ليترك خلفه شركة ”يلديز” القابضة التي تملك 54 مصنعًا في 10 دول، وتصدر منتجاتها المختلفة في شتى المجالات إلى 110 دول حول العالم، وتتجاوز عائداتها 10 مليارات دولار. وهذا الإرث الكبير والنجاح الباهر هما الآن في عهدة نجله مراد أولكر الذي رباه على مبادئ أسرته حتى يكون مؤهلاً لتحمل هذه المسؤولية ويضيف إلى نجاحات والده نجاحات أخرى، ويحمل الراية إلى الأجيال القادمة.
لا شك في أن حياة السيد صبري أولكر قصة نجاح باهرة بدأت فصولها في جزيرة القرم، واستمرت 92 عامًا لتنتهي في مقبرة كوزلو بمدينة إسطنبول؛ نجاح يلخِّص سرَّه الراحلُ نفسه لرجال الأعمال الشباب بهذه الكلمات: ”إن النجاح يكمن في أساسه العمل الدءوب دون كلل أو ملل، ولا بد من أن يكون المنتَج جيدًا يلبي ما يطلب منه المشتري، ويجب الاهتمام بنشر الإعلانات التجارية، ونحن أولينا للإعلانات اهتمامًا كبيرًا منذ اليوم الأول، وسنهتم بها في المستقبل كما نهتم بها اليوم؛ لأن المنتج إن كان ذا جودة عالية ويتم الترويج له بدعاية جيدة فستكون النتيجة مذهلة”. الكاتب هشام كعكي