اسلاميات

حلاوة الإيمان وعلاقتها بحفظ الجوارح

 

بقلم – د . سامح أبو طالب:

أخرج البخاري في صحيحه عن أنَسٍ رضي الله عنه قال : قال رسول اللّهِ – صلى الله عليه وسلم –” ثلَاثٌ من كنَّ فيه وجَدَ حلَاوَةَ الْإِيمانِ ، أنْ يكُونَ الله وَرَسولُهُ أحَبَّ إليه ممَّا سِوَاهمَا ، وأَنْ يحِبَّ المَرْءَ لا يحِبُّهُ إلا للَّهِ ، وأَنْ يَكرَهَ أنْ يَعودَ في الْكفْرِ كما يَكرَهُ أنْ يقْذَفَ في النّارِ” .

ذكر النبي – صلى الله عليه وسلم – أوصافا إذا وجدت في قلب الإنسان، وتحلى بها؛ فإنه يجد بها حلاوة الإيمان، وهذا دليل على أن الإنسان قد يجد الحلاوة وقد لا يجدها، وأن الإيمان له حلاوة توجد؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول:( وجد)  فوجود الحلاوة يكون بهذه الخصال الثلاث،وأنها أمر محسوس ، فهي تشمل البدن كله، وتعم الجوارح وتبقى معه، بل يزول بها الآلام التي قد يجدها، ويتحمل في سبيلها ما لا تتحمله الجبال إذا وجد هذه الحلاوة.

فقد روي أن النبي- صلى الله عليه وسلم – خرج من غزوة ذات الرقاع فقال : من يكلؤنا في الليل ؟ فقال رجل من الأنصار ورجل من المهاجرين : نحن على شعب  فنام الأنصاري ، وحرس المهاجري ، فقام يصلي ، فجاء رجل من المشركين فرماه بسهم فنزعه ، فرماه بآخر حتى رماه بثلاثة أسهم ، فلما خاف على نفسه أيقظ صاحبه ، فلما رأى الدم يسيل منه قال: هلا أيقظتني من الأول فقال كنت أتلو سورة فوقعت في روضاتها ، ولولا أني أخاف أن أضيع ثغرا أمرني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بحفظه لما أيقظتك ، وبلغ ذلك النبي – صلى الله عليه وسلم – فدعا لهما.

ما الذي حمله على احتمال الألم؟ إنها حلاوة الإيمان ، وتلاوة القرآن، تحمل في سبيل الله هذا الأمر حتى كاد يصل إلى القتل، والأمثلة على هذا كثيرة جداً، هذه الحلاوة هي فوق حلاوة الطعام، وذلك إذا تحلى قلبه وجوارحه بأن الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، من كل شيء حتى من نفسه؛ صارت الطاعة مقدمة على هذه الأمور،كما حدث لهذا الرجل، قدمها حتى على نفسه، وإنما حمله على أن يقطع قراءته ومناجاته خوفه على المسلمين، وامتثاله أمر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، أما نفسه فلم تكن هي المؤثرة في ذلك.

هذا أمر يجعل الإنسان يتحمل في سبيله المشاق والأمور العظيمة، والإنسان قد يجد في نفسه هذا الشيء، أنه إذا عمل طاعة لله يجد لذة وطمأنينة، بخلاف ما إذا عمل بالمعصية، فإنه يجد وحشة وخوفاً وقلقاً يقلقه، ولكن هذا الشيء لا يشعر به من كانت معاصيه كثيرة.

وكذلك من كانت الطاعة ليست من شأنه وليس بمتحلٍ بها، وإنما تأتي منه مرة وتذهب أخرى لا يجد ذلك؛ لأن الذنوب تضاد هذه الأمور أو تضعفها فلا تظهر، فيكون الإنسان شبه ميت، والميت إذا جرح لا يحس بالجرح؛ لهذا يقول الله جل وعلا: { كلا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ } [المطففين:14] الران هو آثار الذنوب، غطاها فأصبح لا يحس الإنسان بأثر الذنب، خلافاً لصاحب الطاعة فإنه إذا وقع في معصية ندم وخاف، وأصابه الوجل حتى يقلع عن ذلك، ويكتسب طاعات تكفر عنه هذا الأمر.

وحلاوة الإيمان في الواقع هي ثمرة الطاعات، وهذا في الواقع هو النعيم الذي يكون في الدنيا قبل الآخرة، فيتصل القلب بربه جل وعلا فيجعل له نوراً يمشي به في الناسقال تعالى : { أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ } [الأنعام:122]. فالموت الحقيقي يكون بالجهل والإعراض عن الله جل وعلا، وليس الموت كونه يفارق البدن، هذا شيء قضى الله جل وعلا به على جميع خلقه، ولكن قد تكون حياته بعد المفارقة أحسن من قبل بكثير، حياة حقيقية وليست حياة وهمية ، ولهذا يقول الله تعالى: { وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ } [البقرة:154]، لا تشعرون بحياتهم وبما أعد الله لهم.

فالحياة الحقيقية هي أن يتحلى الإنسان بطاعة الله ، ولهذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.

وليست هذه الجنة بساتين ورياحين، وإنما هي اللذة بطاعة الله جل وعلا والتنعم، حتى وإن أوذي، حتى وإن كان فقيراً مدقعاً يجد النعيم في ذلك.

وعلاقة ذلك بالجوارح أن حلاوة الإيمان تكون بالقلب والبدن، فإن البدن يتبع القلب، ولهذا جاء في تفسير قوله جل وعلا: { فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى } [طه:123] يقول ابن عباس : لا يضل في الدنيا، ولا يشقى في الدنيا قبل الآخرة، وليس معنى الشقاء: كونه يتعب في بدنه في العبادة أو يقوم الليل أو يصوم النهار، هذا ليس شقاءً ولا تعباً، هذا يكون نعيماً، وأهل الطاعة تكون أبدانهم أقوى من أبدان أهل المعصية، وإن كانوا يتنعمون بالملذات.

مضى على أحد السلف تسعون سنة، فكان يثب كوثوب الشباب فقال له رجل من الحاضرين: ارفق بنفسك ، فإنك كبير السن، فقال له: هذه جوارح حفظناها في الصغر عن معاصي الله؛ فحفظها الله جل وعلا لنا في الكبر.

والله جل وعلا يحفظ عبده الذي يحفظ جوارحه عن المعاصي والمخالفات، كما في حديث ابن عباس في وصية النبي صلى الله عليه وسلم: ( احفظ الله يحفظك )، الحفظ يكون على نوعين: حفظ في الدين والعقيدة، وهذا أهم شيء يحفظه الله جل وعلا في دينه وعقيدته فلا يتزعزع، ولا يدخل في الشكوك والانحرافات.

وحفظ يكون في بدنه وجوارحه كالسمع والبصر وغيرها؛ لأنه لا يصيب الإنسان مصيبة بمرض أو غيره إلا من جراء ذنوبه، قال جل وعلا: { وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ } [الشورى:30].

وقد أوصى الحسن البصري – رحمه الله- أصحابه في الجهاد فقال: إنهم ( يقصد الأعداء) وإن هملجت بهم البغال، وطقطقت بهم البراذين؛ فإن ذل المعصية لفي قلوبهم، أبى الله إلا أن يذل من عصاه، فالمعصية فيها ذل وخزي، وفيها هدم للعمر والروح؛ لأنها محاربة لله جل وعلا، وفيها نزع البركة من البدن والجوارح والأعمال، وفيها أيضاً ظلمة في القلب، ووحشة فيما بينه وبين كل من يدور حوله في حياته، يجد قلبه يخفق دائماً، حتى لو حركت الريح الباب وجدته يفزع ويخاف ما الذي حدث؟ ما الذي صار؟ أما أهل الطاعة فعندهم الطمأنينة والسكون؛ لأنهم يعرفون أن ما يصيبهم فبإذن ربهم، فيرضون ويسلمون وينقادون.

ولما حضرت الوفاة بلالاً – رضي الله عنه – كانت زوجته قريبة منه وهي تقول: وا كرباه!فقال: وا قرباه! غداً ألقى الأحبة، محمداً وحزبه.

فهو يفرح ويستبشر، هكذا يكون العبد في أحلك المواقف وأشدها فرحاً مطمئناً؛ لأن حلاوة الإيمان عنده،والطاعة التي يجدها أنه يفعلها على بصيرة،وليس كمن يفعل شيئاً ويقول: ما أدري هل هذا صواب أولا؟ ما أدري هل أنا على حق أم أنا على باطل؟ المقصود: أن حلاوة الإيمان ليست شيئاً خالياً في قلبه أو شيئاً يتصوره في العقل فقط، ولا يجده في قلبه ولا في بدنه، كلا، بل هو كما أخبر الرسول – صلى الله عليه وسلم – يجد حلاوة الإيمان في قلبه، وهذه الخصال الثلاث إذا اجتمعت فيه تامة فإنه يجد حلاوتها، أما إذا وجد بعضها دون بعض فلا يلزم أن يجد حلاوتها،فقد لا يجد وقد يجد، وقد يجد شيئاً ضعيفاً، وإنما يجد الحلاوة من اجتمعت فيه هذه الثلاثة مجتمعة.

وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى