من اين لنا بشخصية كهذه ؟
بقلم – عدنان صعيدي:
( لست عصاميا ) . . هكذا قال عن نفسه الشيخ صالح كامل ــ يرحمه الله ــ عندما عرضنا عليه في مركز انتاج جدة التابع لشبكة راديو وتلفزيون العرب (ART) ــ استضافته في برنامج يسلط الضوء على العصاميين . . قال : ( لقد ساعدني والدي كثيرا وللدولة فضل كبير علي وخاصة الأمير سلطان بن عبد العزيز الذي اسند الي العديد من المشروعات .)
ذات صباح في احد مواسم الحج التقى الشيخ صالح كامل معالي الشيخ حسن المشاري وزير الزراعة الأسبق قال الوزير : ( يا صالح امس في العصر رأيت واحدا مثلك يرتدي “فوطة وفانيلة” ويقود سيارة وانيت . ) فيجيبه الشيخ صالح كامل : ( انا هو . . فانا في الصباح موظف حكومي ( ممثل مالي ) وبعد الظهر صبي مطوف عند والدي. )
بعض زملاء الشيخ صالح كامل في جامعة ” الرياض” الملك سعود ومنهم الإذاعي القدير الاستاذ هاشم ملاوي ــ يرحمه الله ــ قال لي : ( كنا نحزن على صالح كامل ونقول ماذا سوف يعمل هذا المسكين عندما يتخرج ؟ فلم تكن الدراسة همه وانما العمل التجاري حيث انشأ في السكن الداخلي للطلاب “كفتريا” ووضع بها ماكينة تصوير للمذكرات . ) لقد كان كل طلاب الجامعات في ذلك الزمن يطمحون الى الالتحاق بوظيفة مرموقة بعد تخرجهم في الجامعة .
دائما يلفت انتباهك تواضع الشيخ صالح كامل، ويبهرك بفكره الاقتصادي، ويستحوذ على اعجابك بفهمه لرسالة الاعلام، ويشحذ همتك وانت ترى قدرته وجلده على العمل .
رغم اني عملت في شبكة راديو وتلفزيون العرب لأربع سنوات متعاونا ثم معارا من الإذاعة السعودية الا ان لقاءاتي مع الشيخ صالح كامل كانت قليلة جدا، كانت اول مرة اشاهده في الطائف وكنت يومها مقدما لحفل رجال الاعمال حيث القى هو كلمة رجال الاعمال السعوديين . . وتساءلت بيني وبين ذاتي . . كيف لرجل بهذا الثراء ويقف امام الأمير ماجد بن عبد العزيز وامام هذا الحفل من رجال الاعمال والاعلام ولا يقفل ازارير رقبة الثوب ؟، وعندما أجريت معه حديثا تلفزيونيا في مكتبه بمناسبة مرور عام على انشاء شبكة راديو وتلفزيون العرب طلب مني مدير التصوير بصوت خفيض : ( ياريت تقول للشيخ يصلح الغترة ويقفل ازارير الثوب )
ــ بعد اذنك يا شيخ صالح . . المصور يقول ياريت تعدل الغترة شوية .
ــ الشيخ صالح يبتسم ويقوم بتعديل الغترة .
ــ فضلا يا شيخ صالح كمان ياريت تزرر الثوب .
ــ شوف يا عدنان : انا الناس تعرفني كدا مهبب لو زررت الثوب ما راح يعرفوني . . ثم يضحك .
في ظهيرة يوم ما وقد بدأ تعاوني مع (ART) كنت والدكتور عبد العزيز النهاري ــ الذي كان مديرا عاما للإنتاج ثم نائبا للرئيس وهو من دعاني للتعاون مع (ART) ــ نخطط في مكتب متواضع في برج دلة لكيفية العمل فتلقى اتصالا هاتفيا وبعد انتهاء المكالمة اخبرني ان الشيخ صالح كامل سوف ينزل الان من مكتبه ليتعرف على خططنا والمكان الذي نعمل به .
كانت هذه هي المرة الثانية التي اشاهد فيها الشيخ صالح كامل حيث دخل علينا حاسر الرأس وبعد ان عرفه الدكتور عبد العزيز النهاري علي قمنا بجولة على المكان ودار حديث حول مكان الاستديو وما يتعلق بالعمل، وعندما غادر صافحنا وقال فرصة طيبة اخ عدنان . . بالطبع استغربت كيف حفظ اسمي بهذه السرعة فهو الشيخ صالح كامل ومثله لا يمكن ان يشغل باله اسم متعاوني مثلي .
اللقاء الثاني بالشيخ صالح كامل كان في مكتبه بحضور الدكتور النهاري والأستاذ فتحي عبد الله والزميل جبريل ابودية، كان الشيخ صالح يستعجلنا لإنتاج برامج من السعودية بينما نحن لا نملك معدات ولا ستديو ولا مكتبة فقلت : ( نحن نستطيع التصوير بمعدات مسـتأجرة لكن لابد من الذهاب للقاهرة لعمل المونتاج )، فقال الشيخ : ( وطبعا هذا يلزمه سفر دائم بين جدة والقاهرة والله يا اخ عدنان انا ماني جالس على بحر. ) . . اسقط في يدي وتأثرت كثيرا من ردة فعله لدرجة انني المحت للدكتور النهاري اني غير راغب الاستمرار في العمل فالشيخ بقوله كأنه يتهمني بتبذير المال، لكن الدكتور النهاري كبح جماح اندفاعي وقال : ( انت لم تعرف الشيخ بعد هو لا يقصدك وانما يتحدث للجميع عن العمل . . لا تزعل )، كان الشيخ يتحدث وبين اسنانه “دبوس” وهو امر مقلق لمن يتحدث مع الشيخ ولم اعرف سر وضعه “للدبوس” الا قبل اشهر حيث افصح عن ذلك الإعلامي الكبير الأستاذ حمدي قنديل في كتابه < عشت مرتين > فقال : ( لم اكن افهم لماذا كان يضع بين اسنانه “دبوس ابرة” عندما كان يعمل، وبالذات عندما كان يقابل ضيوفه، حتى افصح لي عن السر، انه يفعل ذلك ليشتت انتباه الضيف اذا ما كان يتفاوض معه على امر هام ) .
كان اول برنامج اصوره في “ART” لقاء مطولا مع الأستاذ عزيز ضياء لصالح برنامج “مشوار”، ولأن الأستاذ عزيز اعجب باللقاء فقد بعث بخطاب شكر للشيخ صالح يثني فيه علي، وفي اجتماع تالي مع الشيخ صالح في مكتبه فاجأني بقوله : ( متى راح تسوي لقاء مع والدي ؟ )، وكما يقول المصريون : يا خبر ابيض !!!
ــ والله يا ياشيخ صالح وقت ما تؤمر .
ــ طيب انا اكلمه واخليهم ينسقوا معاكم .
في كل لقاءت العمل مع الشيخ صالح اتفاجأ بأمر لم اكن اعرفه عنه ففي احد الأعوام قررت (ART) إقامة احتفال بمناسبة اليوم الوطني وإنتاج اوبريت غنائي، واخترنا مسرح جامعة الملك عبد العزيز مكانا للاحتفال حيث يحضره الأمير ماجد بن عبد العزيز، واثناء البروفات حضر الشيخ صالح، ثم اخبره في نهاية البروفة الدكتور النهاري اننا قد فردنا السفر لعشاء الفرق فما كان من الشيخ الا الجلوس معنا على الأرض وتناول طعام العشاء بتواضع ملفت للجميع .
ما سبق وذكرته غيض من فيض وكثيرون جدا يعرفون مالا اعرف عن الشيخ صالح كاقتصادي وصاحب فكر متميز في الاقتصاد وفي الاعلام ورجل خير للقريب والبعيد لمن يعرف ولمن لا يعرف حتى ممن ينافسه في مجال عمله .
أجريت في الرياض لقاء لصالح برنامج مشوار مع شخصية ثقافية وعلمية كبيرة جدا ولا حظت ان الضيف مستور الحال لدرجة ان عائده المالي لا يفي بكل نفقاته، فكتب خطابا للدكتور النهاري اطلب فيه صرف مكافأة كبيرة للضيف مقابل اللقاء وذكرت السبب، فرفع الخطاب للشيخ صالح، فرد الشيخ صالح بشرح مفاجئ : ( اخبر الأخ عدنان ان فلانا ممن يصرف لهم راتب شهري منذ سنوات . )
كان اول تعليق لي على وفاة الشيخ صالح كامل عندما نشر الشيخ احمد فتيحي في مجموعة الثلوثية جزء من محادثة تمت بينه وبين الشيخ يوم الاحد عبر “واتساب صوتا” : ( من اين لنا بشخصية كهذه رحمه الله واسكنه فسيح جناته ) قلت هذا وقد سمعت الشيخ يعلق على مقالة بعثها له الشيخ احمد فتيحي فيها من الحكمة ما نحتاجه جميعا . . قال الشيخ صالح : ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ومعافاته . . يا اخي أبا وليد . . والله انت صرت بيدباء العصر، هذه التي قرأتها اليوم سوف أرسلها لكل اولادي واحفادي الكبار لأنها وصفة اغلى من الذهب ) ، لم يكن الشيخ صالح كامل رجل اعمال واعلام وصاحب ثروة ورجل خير بل هو أيضا يلفت انتباهك بثقافته . . رحمه الله واسكنه فسيح جناته .