القدس.. تعددت الصناديق ومعاناة المقدسيين مستمرة
===============
محمد المختار الفال *
===============
استفزَّ قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، نقل سفارة بلاده إلى القدس والاعتراف بها عاصمة لإسرائيل، مشاعر عامة المسلمين والمنصفين وأحرار العالم، وجدد المخاوف والمخاطر التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، وكشف حقيقة نوايا وخطط الصهاينة ومن يناصر جرائمهم، لغمط حقوق أهل الأرض، وطمس المعالم والشواهد التاريخية الدالة على أصالة وجود الفلسطيني على أرضه.
وهذا القرار «الخطيئة»، استكمال لخطط إسرائيلية تعمل على ابتلاع القدس وإجلاء أهلها، بفرض قوة الواقع، و«تقنين» هضم الحقوق من خلال «قانون قومية الدولة» الذي أجيز، بعد أن أسقط في «الكنيست» مرات عدة، وهو القانون الذي سيؤدي تطبيقه إلى آثار عميقة مدمرة تمس جوهر الوجود، فهو يقرر أن اللغة العبرية هي لغة الدولة، وأن العربية ليست لغة رسمية، أي أن «العبرية» هي لغة التعليم والمحاكم والإدارة، ورموزها ومعانيها هي التي تصبغ الثقافة العامة وتعبّر عن هوية شعب هذه الدولة، ما يجعل العربي «غريباً طارئاً» على أرضه، وهذا القانون – كما يرى الخبراء – لا يعترف بوجود الفلسطينيين على أرضهم، ويهدف إلى حرمانهم من حق «تقرير المصير» الذي يمنحه القانون الدولي للشعوب المستعمرة، فهم في نظره مجموعة من الناس تقيم على أرض غير أرضهم (!!!!). ومن هنا، يصبح إقرار هذا القانون والشروع في تطبيقه مرحلة بالغة الخطورة، لأنه سيفضي إلى خطة عامة هدفها محو كل صفة قانونية للفلسطينيين (اللغة والشعارات والرموز)، وتحويلها إلى رموز يهودية، أي أن «إسرائيل»، وبهذا القانون، لم تعد دولة محتلة، يتوجب عليها ما يفرضه قانون الاحتلال، بل أصبحت دولة تحتضن «غرباء» يمكن التخلص منهم في أي وقت وفق أي ترتيبات.
أمام هذا الواقع يبرز سؤال: ماذا أعدَّ العرب والمسلمون، عملياً، لتمكين المقدسيين من التمسك بحقوقهم والصمود في وجه خطة محوهم من الوجود، وإن بقوا.. بقوا بلا هوية؟ كثرت المؤتمرات عن دعم القدس، وكان آخرها الأسبوع الماضي في الأزهر، وكثرت الصناديق المنبثقة عن تلك المؤتمرات حتى كاد اسم القدس يرتبط بالصناديق، لكن النتيجة استمرار معاناة المقدسيين والتضييق عليهم وهدم بيوتهم وإغلاق محالهم وطرد شبابهم وفق خطة صهيونية مدروسة توفّرت لها البليونات من تبرعات صهاينة العالم ومن يخضع لسطوتهم ومكينة دعايتهم، مستغلين الفراغ الناتج عن الفرق في القوة على الأرض، والاستمرار في إصدار القوانين والإجراءات التنظيمية لمزيد من تزييف الحقائق وتشويه المعالم ومحو شواهد على الأرض.
ومبالغ الصناديق المعلن عنها، في المؤتمرات ووسائل الإعلام، ضخمة تكفي لتمكين المقدسيين من البناء على أرضهم ومواجهة التحديات التي تعمل على انتزاعهم من بيوتهم وأراضيهم، لكن هل تلك «التصريحات المالية» يتم الوفاء بها، أم هي عناوين بلا مضمون في منظومة «الدعاية» التي تتجار بحقوق الفلسطينيين؟ فلا ينتهي اجتماع عربي أو إسلامي إلا سمعنا أن «القدس هي القضية المحورية التي تستوجب على الجميع التعاون والتنسيق في المحافل الدولية والإقليمية من أجل دعمها والدفاع عنها».
والصناديق المعلنة لمساندة أهل القدس ودعم وجودهم على أرضهم كثيرة يصعب حصرها، منذ عشرات السنين، وكلها تدور حول: معالجة قضايا السكن والتعليم والصحة، لكن النتائج على أرض الواقع لا تتناسب مع الأموال المعلن عنها، واستطلاعات رأي المقدسيين تتفق على أن «تشتت الجهود» وعدم وجود «مرجعية» لتلك الصناديق أضعفا تأثيرها على حياة الناس وعجزت عن تحقيق أهدافها. وتختلف الأسباب والعوائق أمام وصول الكثير من الأموال إلى المقدسيين، فبعض الذين يعلنون تخصيص الأموال لدعم القدس لا يوفون بالتزاماتهم، إما لأنهم «يشترطون» إيصالها مباشرة إلى المستفيدين، وهم لا يملكون الأدوات التي تمكنهم من ذلك، أو توجيهها إلى غير وجهتها من قبل «وكلاء» لهم مصالح لا تحقق الأهداف المعلن عنها، والبعض «لا يستطيع» الوفاء بتعهداته بسبب الضغوط السياسية، فيكتفي «برفع الحرج» والإعلان أمام الرأي العام في المؤتمرات أنه بادر إلى تبني صندوق لدعم المقدسيين.
أمام هذه الصورة «المرتبكة» والمخيبة، تقف صورة أخرى أكثر وضوحاً وفعالية، هي العمل المنظم الذي تقوم به سلطات المغتصب بدعم من الصهيونية العالمية، عمل يقوم على التنظيم و«مأسسة» مشروعه الهادف إلى طرد المقدسيين، طوعاً أو كرهاً، فلدى الجانب «الإسرائيلي» ميزانية ضخمة من خلال بلدية الاحتلال وما يسمى بشركة تطوير القدس، وتنفق وفق نظام «مؤسسي» خاضع للحوكمة والشفافية، ويعمل من خلال برامج واضحة هدفها خلق واقع جديد، مقابل جهود عربية «مشتتة» يكاد وجودها يكون مفرّغاً من المضمون.
وفي السنوات الأخيرة، في إطار الاجتهادات والخيارات المحدودة، برزت الدعوة إلى «زيارة القدس»، لدعم أهلها وحضورها في وعي أجيال العرب والمسلمين، حتى لا تنمحي من الذاكرة الجماعية، وأثارت تلك الدعوة «لغطاً» سياسياً ونقاشاً دينياً مغلفاً بـ«قشرة السياسة العفنة»، وظلت المواقف متباينة تعبِّر، بصدق، عن حال العجز التي يمر بها العرب والمسلمون تجاه نصرة القضية الفلسطينية وفي قلبها القدس الشريف، فالمعارضون يرون أن قبول السفر بتأشيرة النظام الصهيوني إقرار بسيادة الاحتلال على القدس، وأن الزيارة ستكون في صالح المعتدي وليس في صالح الفلسطينيين، لأنها ستعطي حكومة المتطرفين الذريعة للقول بأنهم يرعون الأماكن المقدسة لجميع الأديان، ويمكِّنون أتباعها من زيارة مقدساتهم بصورة منظمة تحول دون استغلالها من قبل المتشددين والمتطرفين وتيارات الإسلام السياسي وما تحمله من أفكار معادية للتعايش، ويؤكد المعارضون أن الزيارة تحت سلطة الاحتلال «تطبيع مجاني» لا ينبغي أن يعطى للعدو قبل التسوية الشاملة، وفي مقابل هذا الرأي، يقف الرأي المحبذ والداعي للزيارة، مؤكداً أنها مفيدة لتأكيد حق المسلمين في القدس، وربط الأجيال الحالية واللاحقة بها، حتى لا تُنسى مع تقادم الزمن وعمليات الطمس التي يقوم بها الصهاينة، وأن منع الزيارة يعزل القدس عن العالم الإسلامي، وزيارتها تدعم سكانها مادياً ومعنوياً، وتمكنهم من الصمود على أرضهم.
والخلاصة، أن المشاعر الطيبة والدعوة إلى التمسك بالحق وإبقاء القضية حية في الوعي الجمعي أمر مفيد، بل ضروري لا يجب التخلي عنه تحت أي ذريعة، لكن الواقع الحياتي لأهل القدس يحتاج إلى شيء آخر، يحتاج إرادة صادقة وعملاً «مخلصاً» ينقذ الدعم من حال «تشتت الجهود» إلى خطة واضحة معلنة تُسند إلى جهة قادرة على النهوض بهذه المسؤولية الكبرى، وفق نظام شفاف قابل للقياس والمحاسبة، حتى يصبح الدعم له هدف يمكن الاطمئنان إلى نتائجه.
*نقلا عن”الحياة”