مقالات

الدكتور فؤاد شهاب وإبنته مريم .. ملحمة الأبوة والإصرار

بقلم – جمال الياقوت :

في عالمٍ اعتاد أن يحاكم الناس بمقاييس قاسية، وأن يضع قيمة الإنسان فيما يملك أو ينجز، تأتي بعض الحكايات الإنسانية لتعيد إلينا البوصلة، وتذكرنا بأن المعجزة الحقيقية تكمن في الحب غير المشروط… ذاك الحب الذي يحتضن أبناءنا كما هم، لا كما نريدهم أن يكونوا.

هذه الحكاية ليست مجرد قصة أب وابنته، بل ملحمة إنسانية بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بطلها أستاذ العلوم السياسية ونائب رئيس مجلس الشورى البحريني الأسبق الدكتور فؤاد شهاب، الذي تحوّل من رجلٍ يُدرّس الفكر والسياسة إلى أبٍ يخوض معركة وجودية باسم ابنته، مريم.

عام 1988 أشرقت مريم على الدنيا، لكنها ولدت بلا سمع. في مجتمعٍ كان يرى الإعاقة وصمة، ويفرض عليها جدران الصمت والعزلة، وجد الأب نفسه أمام خيارين: إما أن يستسلم لنظرات الشفقة والعادات الجامدة، أو أن يقاتل لأجل كرامة ابنته وحقها في الحياة. لم يتردد لحظة، فاختار الطريق الأصعب، طريق المواجهة والصمود.

لم تكن الرحلة سهلة؛ فقد جاب العالم باحثًا عن علاج، من إنجلترا إلى أمريكا، ثم إلى مصر حيث أقام سنوات طويلة في سبيل مريم. لم يعرف الراحة، ولم يعرف الانكسار، حتى جاء اليوم الذي نطقت فيه الصغيرة أول كلمة لها: “بابا”. لم تكن مجرد لفظة، بل كانت إعلان نصر على كل الحواجز، وبشارة أن الأمل لا يخيب من تمسّك به.

لكن المعجزة لم تتوقف هنا؛ فالدكتور فؤاد لم يرضَ أن تُحصر ابنته في مدارس خاصة، بل أصر على أن تندمج مع أقرانها في التعليم العام. واجهت الطفلة صعوبات هائلة، لكنها تجاوزتها بإصرارها وبحب والدها الذي لم يتركها لحظة. ومع مرور السنين، تحوّلت مريم من طفلة صامتة إلى فتاة متفوقة، ثم إلى خريجة جامعية ناجحة، ثم إلى قيادية تُلهم الآخرين برئاستها للاتحاد الرياضي للمعاقين في البحرين.

هذه الحكاية لم تبقَ سرًا في بيت صغير، بل أراد الدكتور فؤاد أن يقدّمها للعالم، لتصبح شهادة حيّة على أن المعجزة تصنعها المحبة والإصرار. فجاء كتابه: «حبيبتي ابنتي سميتها مريم»، الذي حمل في صفحاته دموعًا وأحلامًا وانتصارات، وأصبح وثيقة إنسانية تتناقلها الأجيال.

وفي القاهرة، حيث أقيم حفل تدشين الطبعة الثالثة من الكتاب، لم يكن المشهد مجرد احتفالية أدبية، بل كان أشبه بعرس إنساني كبير. اجتمع المفكرون والكتّاب وأصدقاء الدرب من البحرين والعالم العربي ليشهدوا أن قصة مريم لم تعد ملكًا لأسرة، بل صارت ملكًا للإنسانية جمعاء.

اليوم، حين نتأمل مريم وهي تبتسم للعالم، ندرك أن صوتها لم يخرج من حنجرتها فقط، بل من قلب والدها الذي آمن بها، ومن حبٍ حقيقي هزم المستحيل.

الرسالة التي يتركها لنا الدكتور فؤاد ومريم ليست عن السمع والكلام فحسب، بل عن جوهر الحياة:
اقبلوا أبناءكم كما هم، أحبّوهم بلا شرط، فالمعجزة ليست في أن يتجاوزوا إعاقتهم، بل في أن نتجاوز نحن ضيق رؤيتنا، ونفتح لهم أبواب الحياة بالحب والثقة.

هكذا، تحولت “مريم” إلى أيقونة عربية وعالمية، وصار كتابها ووالدها شاهدين على أن الأبوة ليست إنجابًا فقط، بل صبرًا ونضالًا حتى النهاية.
إنها ملحمة تقول للعالم كله: الحب وحده… هو الذي يصنع المعجزات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى