ثقافة

نظرة على “صرخات الجثة في المشرحة” للدكتور محمد محسن

عاطف acquire Lasix

عرض:عاطف عبد العزيز الحناوي

جاءت القصيدة من بحر المتدارك – في صورة الخبب – و هي تتميز بسرعة الإيقاعات , بما يتناسب مع الحالة الوجدانية و الانفعالية للأديب , و التناسب مبدأ جوهري في كل أشكال الفن و لا شك , و كما يقول الدكتور جابر عصفور نقلا عن حازم القرطاجني : ” التخييل الشعري حركة متعددة الأبعاد , تعتمد على المعنى و الأسلوب و اللفظ و النظم و الوزن , و الألفاظ في الشعر غير منفصلة عن الوزن ” – مفهوم الشعر الدكتور جابر عصفور .
و هذا القول ينطبق تمام الانطباق على نص ” صرخات الجثة في المشرحة ” لأن البحر الذي جاءت منه القصيدة و الألفاظ و الصور الشعرية كلها جاءت لتؤكد على حالة الصدمة و الرهبة من موقف المواجهة الأولى مع الأجساد المسجاة و رائحة الفورمالين في المشرحة .
و مما يلفت النظر استخدام الشاعر لألفاظ علمية مثل الفورمالين و الأبهر و الذرة و غير ذلك و استخدام مثل هذه الألفاظ يؤكد على صدق التجربة ( صدقا واقعيا و صدقا فنيا في الوقت نفسه ) و كانت لي هذه الملاحظة نفسها على بعض قصائد الدكتور أستاذنا الجليل ” محمد شكري جاد ” حيث شاعت في بعض نصوصه ألفاظ علمية كثيرة و ذلك منشؤه الدراسة العلمية فهذا طبيب و ذلك صيدلاني و أؤكد على أن كل الألفاظ صالحة في الشعر طالما أحسن الأديب استخدامها و نأت عن الافتعال و الحشو اللا داعي له .
تبدأ القصيدة بفعل الأمر ” دعني ” على لسان الجثة , و فيه تناسب مع حالة الصراخ يقول الشاعر – رحمه الله :
دعني أخرج من أدوار الليل المبهم
دعني أخرج من بين الأشلاء الشوهاء
في هذي المشرحة الخرساء
ما عدت أطيق الموت
فالصمت اختنقت في قبضته الأشياء
انظر إلى استخدام ألفاظ ” الليل – المبهم – الأشلاء – الشوهاء – المشرحة – الخرساء – الصمت – اختنقت – الفورمالين – انبش – الرئتين – الترياق …. ” أليست كلها تخدم و تدعم جو القصيدة و حالتها الإبداعية ؟!
و لكأني بالشاعر يستخدم تقنية السرد و الحوار, الذي يراه البعض أنه مستقبل الشعر العربي – كريم معتوق من الإمارات نموذج لذلك – فنجد في النص أسلوب الحوار و سرد الأحداث و السيناريو السينمائي , في تتابع يبهر الأنفاس و تلك المقارنة الطريفة , بين معنى الحياة و معنى الموت , حتى إن الميت يتمنى أن يتألم حيث يقول :
فأنا أشتاق لطعم الألم المر
أتمنى جرعة سم أو كأس عذاب
أتمنى لو أنظر من ثقب العالم لحظة
أشهق في الأنسام و لو مرة
و لكأني به يقول : إن الحياة و الألم صنوان , و هل لجرح بميت إيلام ؟!
و يتساءل هل هو حقا ميت أم ماتت من حوله الأشياء كلها يقول :
لا أدري هل حقا متُّ
أم ماتت حولي كل الأشياء
يقول :
كل الأنوار تلاشت
و انتزعتها قوات جيوش سوداء
و يتحدى الأطباء و عصر الذرة بكل ما لديهم من علم أن يعيدوا تدفق الدماء في أوردته و قلبه و أن يبعثوا فيه الحياة من جديد و لكن هيهات !
و في النص أيضا اقتباس من القرآن الكريم حيث يذكر الشاعر لمحة من قصة يونس – عليه السلام – حيث ابتلعه الحوت و كأني بحالة من المعادلة الموضوعية بين الميت في موته و سيدنا يونس في بطن الحوت و ينقذ الله يونس من الهلاك و هي معجزة من الله و لكن من ذا الذي يحقق المعجزة و ينقذ الميت و يرده من بين أنياب الموت !؟ يقول الدكتور محمد محسن :
يا عصر الذرة
آهٍ لو تحييني مرة
أخرجني لو تقدر من هذا التابوت
و أعد معجزة انتشلت يونس من بطن الحوت
أقول : جاءت القصيدة متماسكة فنيا و صادقة جدا , في لغة سهلة خالية من الغموض , كما جاءت غنية بالتصوير البليغ , و فيها لغة حوار و سرد و الكثير من اللمحات الإيمانية , و تلك رسالة الفن و الأدب الرفيع , فلا أدب حقيقي بدون رسالة و إلا صرنا في حالة من العبث و الفوضى بلا جدوى .
و أتذكر أن غير واحد من أساتذتنا أخبرني كيف أن الدكتور محمد محسن كان رائدا من رواد شعر الومضة – الإبيجرام – حين قال القصيدة الأكثر انضغاطا و تكثيفا على الإطلاق :

ومضت
و مضت
و بين فعل ” الومض ” و فعل ” المُضِي ” دنيا من الاحتمالات و الرؤى و المعاني الغنية .
رحمة الله على شاعرنا الطبيب رحمة واسعة . generic Antabuse generic lioresal

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى