لغة الحقول في خريف جازان.. ذاكرةُ المزارعين وحكاياتُ القرى

جيزان – واس :
تستعيد أودية جازان مع دخول موسم الخريف إيقاعها القديم، فتعود الأرض لتتكلم بلغتها الأولى؛ لغة صاغها المزارعون عبر عقود، وربطت بين المطر والمواسم والحقول، حتى تكوّن معجمٌ زراعيٌّ محليّ، ظلّ حاضرًا في ذاكرة القرى ومتدفقًا مع الأودية وخُضر السنابل، يروي تفاصيل الزراعة من لحظة ظهور السحاب وحتى اكتمال الحصاد.
ويحوي ذلك المعجم مفرداتٍ شكّلت سجلًا يوميًا لحياة المزارع؛ يقرأ من خلالها حركة الغيم وتحولات التربة ودقائق النمو، ويستدلّ بها على دلالات الموسم، حتى غدت لغةً تُجسّد ارتباط الإنسان بأرضه وتراثه الزراعي.
ويشير الباحث في تاريخ أودية جازان محمد بن حسن أبوعقيل إلى أن المزارعين قديمًا كانوا يترقبون السحب مع بدء الدورة الزراعية، فيتجه نظرهم نحو الشرق في عادة تُعرف بـ”التخويل”، يستدلّون من خلاله على حركة السحب واحتمالات المطر، وعندما يظهر “القِلْص” وهو تكون السحاب فوق الجبال، يعرفون أن الموسم قد بدأ، فيتهيأون للسيول التي ستروي الوادي وتحول الأرض إلى “نجاب”؛ أي تربة رطبة جاهزة للحرث وزراعة الذرة.
وتوارثت قرى جازان تسميات دقيقة لمراحل النمو، تبدأ بـ”الثماير” بعد أيام من البذر، ثم “الغشوة” التي تعيد للأرض أولى خُضرتها، ومع اشتداد الساق يُقال: إن الزرع “يُقاصِب”، ثم يدخل مرحلة “الجَضْم” التي تكتسب فيها الحقول مظهرها الكثيف، وبعدها يصل النبات إلى مرحلة “الرصيف” تمهيدًا لظهور السنبلة.
وقُبيل خروج العذق، تلتف الورقة العليا حول رأس القصبة في ما يُعرف بـ”يلوي”، وهي علامة على تكوّن “القرن” وهو الغلاف الذي يحتضن السنبلة قبل بروزها، ومع بدء انفصال خيوطها، يصف المزارعون المرحلة بـ”يُناطِق”، وفي داخلها تتشكل حبات طرية تُسمّى “الخَريط”، وهي بداية تأسيس الحَبّ.
ومع تغيّر لون السنبلة وامتلاء عروقها، يلتقط المزارعون بعض العذوق ليشووا حبوبها على الجمر في مرحلة “الشويط”، فيما تُطحن الحبوب الخضراء لصناعة “الخضير”، أحد أشهر أطباق الخريف في قرى جازان.
وبعد نحو ثلاثة أشهر من البذر، تصل الذرة إلى مرحلة “الحَبّ”، وتبدأ عملية الحصاد التي تُعرف بـ”الصريب” وهي “الصريم”، ثم تُنقل السنابل إلى موقع مهيّأ يسمى “الجرين”، إذ تُرص استعدادًا لـ”الخبيط”، وهو ضرب السنابل بالعصي لاستخراج الحَبّ، أمّا القصب اليابس فيُجمع في “المزاويم” على شكل مخروطي لاستخدامه علفًا للدواب، فيما تُهيّأ الأرض مرة أخرى لاستقبال موسم جديد.
ويؤكد أبوعقيل أن هذا المعجم الزراعي المحلي يمثل ذاكرة لغوية وثقافية فريدة، تستحق التوثيق والتدوين لما تحويه من مفردات دقيقة تصف المطر والنمو والحصاد، وتعكس عمق ارتباط الإنسان بأرضه وقراءته للمواسم بعين الخبرة وبصيرة التجربة.




