الركود الخفي .. صدى التضخم الهيكلي وتراجع التجارة العالمية

بقلم – الدكتورة غنيمة الدرازي :
بينما تنشغل الأسواق العالمية بمتابعة تقلبات أسعار المعادن والأسهم، وقرارات البنوك المركزية المتعلقة بأسعار الفائدة، يخطو الاقتصاد العالمي بخطى ثابتة نحو مرحلة جديدة وغامضة أطلق عليها بعض الخبراء الاقتصاديين «مرحلة الركود الخفي».
لا تُقاس هذه المرحلة المبهمة أو تتضح معالمها بالإحصائيات الاقتصادية التقليدية المتعارف عليها، مثل انخفاض معدل نمو الناتج المحلي للدول، بل بمؤشرات تُعتبر نوعاً ما مستحدثة، مثل قلة الثقة بين الاقتصادات الكبرى، وتباطؤ الزيادة في الإنتاجية، وانخفاض مستويات التجارة العالمية. ومع أن بعض دول العالم ما زالت تحقق معدلات نمو جيدة نوعاً ما، إلا أن البنية العميقة للاقتصاد العالمي بدأت تُظهر علامات أزمة اقتصادية أكثر غموضًا وتعقيداً مما تُبيّنه الإحصائيات الرسمية.
تشير التحليلات الاقتصادية الحديثة أن أنماط السلوكيات الجديدة للأفراد والشركات تعزز نظرية الركود الخفي. أذ اقتصر إنفاق المستهلكين بشكل كبير على الأساسيات، وقللت الشركات من استثماراتها، وأصبحت أكثر تحفظاً في التوظيف. كما قللت الدول الكبري من ضخها لرؤوس الأموال في الدول النامية، مما خلق تباين واضح في معدلات النمو على الصعيد العالمي، وزاد من تفاقم أزمات الدول النامية.
ثم أن جائحة كورونا لا تزل تلقي بظلالها السلبية على التجارة العالمية، وذلك على أثر تعثر سلاسل التوريد، وزيادة أسعار الشحن، وتحول أعداد هائلة من الصناعات إلى الاعتماد على الإنتاج المحلي. هذه العوامل مجتمعة ساهمت في أعادة رسم خريطة التجارة العالمية الى حد ما، وكان لها دور واضح في تغير معالم التركيبة الاقتصادية للاقتصادات الكبري. فمثلاً، الاقتصاد الصيني الذي كان يعد من أكبر الاقتصادات نمواً في العالم، يعاني هذه المدّة من عدة أزمات داخلية ساهمت في تباطئ الدورة الاقتصادية للاقتصاد الصيني، منها تراجع الطلب المحلى، و انخفاض الطلب العالمي على البضائع الصينية، وتدهور السوق العقاري.
على صعيداً اخر، تواجه القارة العجوز أزمة طاقة قاسية ساهمت في رفع كلفة إنتاج البضائع الأوروبية بشكل كبير، وبالتالي انخفاض الطلب، مما قوض من قدرة الاقتصاد الأوروبي على المنافسة، ودفعته الى حاله من التضخم المزمن.
أما فيما يخص الاقتصاد الأمريكي، الذي يرتكز بشكل رئيسي على استهلاك المستهلكين (الذي يشكل ٧٠ بالمئة من الناتج المحلي) والإنفاق الحكومي، فأن أسعار الفائدة المرتفعة لفترة ليست قصيرة، قد اثرت بالسلب على نمو الشركات الصغيرة، والقت بظلالها السلبية على القطاع العقاري. كذلك، وصلت ديون الأمريكيين إلى مستويات غير مسبوقة مما ساهم في تباطئ إنفاق المستهلك ومهد الى دخول أكبر اقتصاد في العالم في فترة تباطئ.
من جهة أخرى، ساهمت الصراعات الجيوسياسية مثل حرب أوكرانيا، واضطرابات البحر الأحمر، وظهور سياسات الحماية التجارية، في خلق تضخم من نوع خاص يعرف بـ«التضخم الهيكلي»، وهو تضخم ناتج عن زيادة العرض وليس الطلب فقط. حيث فاقمت الصراعات الجيوسياسية السابقة الذكر أسعار السلع الأساسية مثل الطاقة، والمعادن، وبشكل أساسي أسعار المواد الغذائية، وجعلتها معرضه لتقلبات كبيرة. تداخل كل هذه العوامل جعل التضخم مقاوم لسياسات المعالجة التقليدية، ووضع البنوك المركزية في حيره بين مكافحة زيادة الأسعار وكبح النمو.
تشابك كل هذه الأوضاع جعل الاقتصاديون يحذرون من تراجع العولمة، أو بمعنى اخر يتوقعون ظهور عولمة من نوع اخر، نوع من العولمة الانتقائية، حيث تقوم الدول العظمى بإعادة رسم تموضعها الاستراتيجي، من أجل أن تقلل من الاعتماد على خصومها السياسيين، مثلاً، قامت الولايات المتحدة الأمريكية بشن عدة سياسات بهدف تشجيع التصنيع المحلي، وتقليل الاعتماد على الصناعات المستوردة، وتشجيع الابتكار. بينما تبنت الصين مبادرات تسعي إلى تسهيل التجارة، وتعزيز نفوذها السياسي والتجاري، في حين تعمل الدول الأوروبية على إقامة توازن بين الاستقلال الاستراتيجي والانفتاح الاقتصادي.
الرسالة الأهم في هذا المشهد أن قوة اقتصادات الدول لم تعد تقاس فقط بالأرقام، بل بقدرتها على التكيف مع المعطيات المحلية والدولية وتعزيز الابتكار.
الدول التي ستنجح في تخطي المرحلة المقبلة هي التي تستطيع إعادة بناء نماذجها الإنتاجية، وتطوير الابتكار المحلي، وتعزيز الثقة بين الحكومة والقطاع الخاص. أما البقية، فستظل تدور في دائرة ركود غير معلن، تتغير فيه الأرقام لكن تبقى الحقائق الاقتصادية ثابتة: تباطؤ، تضخم، وتقلص في الفرص.




