سياحه وترفيه

وائل الدغفق .. رحّال الخبر يقود الرحالة السعوديين في رحلة لسور الصين العظيم

بقلم – رحّال الخبر وائل ابن عبدالعزيز الدغفق

هناك أمثالٌ تُقال لتفتح طريقًا في الروح، لا في الأرض… ومقولة: «اطلب العلم ولو في الصين» واحدة من تلك الأمثال التي لا تزال تلتمع في ذاكرة العرب، كأنها دعوةٌ للسير حيث تنتهي الخرائط، وللسعي نحو المعرفة حتى لو ابتعدت المنازل وتعالت الجبال.

ولو قيل هذا المثل في زمن الرحلات السريعة، لابتسم المسافر في المطار وقال:
الصين؟
ستّ ساعات ونصف… لا أكثر!
لكنّه ينسى أن ما بين البصرة والمدينة كان يُقطع في شهور، وأن الوصول إلى الصين في الزمن القديم كان حُلمًا يكاد يلامس المستحيل.

ومع ذلك… نحن اليوم لا نذهب لنتعلّم فقط، بل لنرى ونفهم، ولنلمس التاريخ بأقدامٍ تمشي على الأرض، لا بأذهانٍ معلّقة فوق الورق. فالرحلة عند الرحّال ليست انتقالًا من بلدٍ إلى بلد، بل صيد معنى—فكرةٌ تُلتقط، ثم تُحبس في سطر، ثم تصبح “قرطاسًا” يحفظه الزمن لأجيال تأتي من بعدنا.

الغريب يرى ما لا يراه أهل المكان
يرى التفاصيل التي اعتادوا عليها حتى صارت تخفى عنهم، ويرى في كل زاوية حكايةً تستحق أن تُروى.
والسفر—إذا تجرّد من الصخب—بابٌ من أبواب التأمل في ملكوت الله، حيث تتحول الجبال والغابات والسماء إلى درسٍ في الخشوع، وتصبح السياحة صلةً بالخالق قبل أن تكون صورًا أو ذكريات.


بداية الحكاية: 6 ديسمبر 2025… إلى بكين ثم إلى السور العظيم

في يوم الجمعة، السادس من ديسمبر 2025م
(15 جمادى الآخرة 1447هـ)،
بدأت رحلتي بصحبة نخبة من رحّالة الجزيرة العربية، وإخوانٍ شاركوني الطريق والدهشة:

فؤاد المهيدب، إبراهيم الغامدي، البروفيسور مسفر القحطاني، د. عادل الياقوت،
محمد الدوسري، خالد التميم، الشيخ عبدالعزيز الضويحي، التاجر ماضي السريحي…
ومحدثكم رحّال الخبر وائل ابن عبدالعزيز الدغفق.

هبطنا في بكين… المدينة التي تشبه نفسها فقط:
خليطٌ من سكينة الشرق واشتغال حضارةٍ لا تهدأ.

ومنها انطلقنا نحو السور…
إلى الأسطورة التي تقف فوق جبال الصين كأعجوبةٍ نُسجت بالحجارة والصبر والإرادة.


إلى السور… حيث يبدأ الصمت ويعلو المعنى

عند منطقة الدخول—بمقاهيها وأسواقها وخدماتها الحديثة—لم تكن الزيارة شبيهة بأي جولة اعتدناها. فقد أضاف الصينيون العربات المعلقة (الكابل كار)، التي ترتفع بك بين الجبال حتى تضعك على أعتاب الدرج الحجري المؤدي إلى سطح السور.

وحين وطأت أقدامنا الحجارة القديمة… سكتت الأصوات، وبدأت الحكاية.


السور العظيم… معلومة يجب أن تُقال

لم يكن صعودنا مجرد خطوات…
بل صعودًا في تاريخٍ يمتد لأكثر من 21 ألف كيلومتر؛
ذلك الطول الحقيقي الذي كشفته أعمال المسح الصينية، موضّحة أن السور ليس جدارًا واحدًا، بل شبكة من الأسوار والخنادق والمسارات الجبلية بُنيت عبر أكثر من ألفي عام.

وما تبقّى منه اليوم 6000 كيلومتر فقط؛
أما الباقي فقد التهمته الجبال والرياح، وبقي التاريخ وحده يردد صدى أقدام من عبروا هنا ذات زمن.

يبدأ السور من تشيايوغوان غربًا—بوابة يسمّيها الصينيون قفل الإمبراطورية—ويمتد عبر 15 مقاطعة، حتى يصل إلى شانهايغوان حيث يغمس رأسه في بحر بوهان عند موقعٍ مهيب يسمّى:
“رأس التنين القديم”.

وبُني السور أول مرة قبل أكثر من 2200 عام في عهد أسرة تشين، ثم أعادت أسرة مينغ تشييده وتحصينه—وهي صاحبة 70٪ من السور القائم اليوم.

ولم يكن السور دفاعًا فقط…
بل وسيلة لتنظيم التجارة، وضبط حركة القبائل، وحماية المزارع الحدودية.

لكن سرّ عظمته الحقيقي ليس الطول…
بل اختيار المكان:
فهو يمتد فوق قممٍ لا تصلها الأقدام إلا بشق الأنفس، وكأنّ من بناه أراد أن يقول للعالم:
نحن هنا… على حافة الدنيا.


الصعود… حين تتسلق الجبال وتتسلقك الدهشة

تسلّقنا الدرجات واحدةً تلو الأخرى،
وكل خطوة كانت تُعيد في الروح صدى آلاف البنّائين الذين مرّوا من هنا.
عند أعلى نقطة بلغناها… فتحت جبال بكين صفحاتها، وتدلّى السور عبرها مثل ثعبانٍ حجريٍّ يلتف حول الكون.

كانت لحظةً تحبس الأنفاس،
وجمالًا يفرض عليك أن تدوّنه،
وها أنا أفعل.


أخيرًا… معنى السفر

السفر ليس فندقًا ولا حقيبة ولا فنجان قهوة على نافذةٍ زجاجية…
السفر وعيٌ يتشكّل، ومعرفةٌ تُدوّن، ومشاهد تتحول إلى حكم.

ومن يقف على سور الصين العظيم لا ينظر إلى حجارة…
بل ينظر إلى إرادة أمةٍ أرادت أن تبقى.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى