إيقاعات أشرف قاسم .. عالم من الشعر
عاطف عبدالعزيز الحناوي *
——————————
أتذكر الآن حديث أستاذنا “محمد طعيمة” حول فن الإيبيجراما , هذه النصوص القصيرة جدا ,و المحملة بمعان عميقة و محملة بروح الشعر أو لنقل : ماء الشعر – وفق قول الشاعر و الإذاعي البارع هشام محمود – و إن النصوص القصيرة جدا, صعبة جدا ,و لاشك ,لأنه باستطاعة الإنسان تفصيل القول و الإسهاب فيه, في شكل مطولات شعرية أو نثرية ,و لكن أن تقول كل ما تريد قوله, و تضمر أشياء و تظهر أشياء في عبارة قليلة الكلمات ,فإن هذا الأمر عسير و جميل في اللحظة ذاتها ,فاظر إلى الشاعر الراحل الدكتور محمد محسن إذ يقول :
ومضت
و مضت
هذان الفعلان المعطوف أحدهما على الآخر ,قد لخصا تاريخ حياة كاملة و قصيرة في الآن ذاته, و من هذا المنطلق أتعرض و أقترب من نصوص “أشرف قاسم” القصيرة جدا ,أو الومضات الشعرية أو القصائد المضغوطة – كما يطلق عليها أستاذنا محجوب موسى – و جاءت قصائد شاعرنا من ضمن أعمال ديوانه الصادر في 2016 عن فرع ثقافة البحيرة ” طعم الحكايا القديمة”و لعلي لا أخالف الحق, إن قلت إن هذا الفن – الإبيجراما- موجود في أدبنا العربي منذ القدم ,و نجد شواهد ذلك فيما وصل إلينا من أبيات يتيمة أو مقطعات قصيرة مكتملة المعنى و البناء ,بل و أصدر بعض الشعراء في العصر الحديث دواوين كاملة من القصائد التلغرافية .
و بالعودة إلى عنوان ” إيقاعات” الذي صدر به “أشرف قاسم” نصوصه التلغرافية ,فإننا نجد أن العنوان متناسب موسيقيا و مضمونيا مع النصوص المطروحة ,من حيث أن الأوزان لم تأت من بحر واحد, بل تتراوح بين تفعيلات المتقارب و المتدارك و الكامل و الرمل و البسيط , بما يشكل تعددا موسيقيا إيقاعيا ,و كذلك ساهم تعدد الرويّ و القوافي في هذا الزخم الموسيقي البديع .
أما من حيث المضمون و الفكر, فإننا بصدد الاقتراب من عالم شاعرنا, الذي يذخر بالأفكار و الرؤى حول الحب و الوطن و الأحلام و الطموح و الانكسار و الغربة .
انظر إلى “أشرف قاسم” إذ يقول من تفعيلة متفاعلن – بحر الكامل :
و إلى متى
ينهار ما نبني
على أيدي الزمن؟
و نظل نركض
في دوائر حزننا
و يد تسلمنا إلى أخرى
و ينكرنا الرفاق
و يذبح الحلمَ
الوطن ؟؟؟
هنا اعتمد الشاعر على أسلوب الاستفهام و هو أسلوب إنشائي, يستنكر من خلاله الأوضاع المقلوبة, و حالة اللاجدوى التي يجسدها الركض في دوائر الحزن و جحود الأصحاب ,ثم انظر إلى براعة التقديم و التأخير في نهاية النص حين قدم المفعول به ” الحلم ” على الفاعل ” الوطن” فإن ذبح الحلم قاس جدا ,فما بالك لو كان الوطن هو الذي يقوم بفعل الذبح ؟! ثم الفعل المضارع الذي يدل على تكرارية الفعل و عدم انقضائه, و هذا تكريس للوضع المأساوي و المفارقة الصادمة بين المتوقع و المتحقق بالفعل .
و من التلغرافات الجميلة ,و الصادمة كذلك قول الشاعر من تفعيلة فعولن – بحر المتقارب و تفعيلة فاعلن – المتدارك معاً :
و مر الزمان
و هبت علينا رياح الهوان
مراكبنا حطمتها الصخور
و أحنى لها رأسه
السنديان
بيننا – سيدي- لم تعد خطوتان
بيننا هوتان !
مزج الشاعر تفعيلتين في ومضة واحدة – هذا أولا – أما ثانيا فإنما هي المفارقة ,التي هي جوهر الومضة الشعرية و التي جاءت في السطرين الأخيرين ,تعبيرا عن اتساع الفجوة بشكل مفزع , تدل عليه لفظة ” هوّتان ” و استخدام الفعل الماضي, يؤكد على تحقق الكارثة بالفعل – كارثة الهوان و انحناء السنديان و اتساع الفجوة بين العالمين / عالم المتوقع و عالم الواقع الفعلي, و الأسلوب هنا خبريّ ,على خلاف ما جاء في الومضة السابقة ,التي اعتمدت أساسا ,على الأسلوب الإنشائي .
و في تلغراف آخر يقول من الخبب – فعلن :
الحلم يموت
فلماذا تندهشين الآن
و أنت
صنعت بكفيك
أجمل تابوت !
مزج بين الخبر و الإنشاء ,و بين الفعل المضارع و الماضي ,و التهكم الواضح ,بوصف التابوت بالجميل ,و إن عاب النقاد القدماء على شوقي – أمير الشعراء – وصفه لتابوت و مومياء بقوله :
و كأنهن كمائم و كأنك الورد الجنين
فإن التابوت لا يوصف بالجميل ,و المومياء لا توصف بالزهرة , اللهم إلا في معرض التهكم و السخرية و تلك من تفانين البلاغة العربية و بحرها الفياض .
يقول “أشرف قاسم” في تلغراف آخر, يفيض عذوبة من بحر البسيط – و هو بحر ممتزج جميل الموسيقى :
من وجهك الطفل
لي أهل و أصحابُ
و من فؤادك لي بيت و محرابُ
عيونك الصبح فيها
أخضرٌ عطرٌ
و سلسل الحب
من كفيك ينسابُ
يا جدول الخير
في صحراء عالمنا
إن كنت لحنا
فإني اليوم ” زرياب ”
شاعرنا دائم الحديث عن الأهل و الأصحاب و صورة الجدب المقيتة , و لكنه محتفظ بأمل و طموح ,يجعله يحيا و يواصل المسير, لأنه برغم الجدب فإن هناك خيرا و لونا أخضر و هناك طفلا و أهلا و أصحابا , و برغم القبح فإن هناك لحنا جميلا, سيظل موجودا لا يفنى , و استدعاء شخصية ” زرياب ” له دلالته من حيث انتماء شاعرنا لتراث له جذوره و تراثنا ليس شيئا ميتا بل هو يفور بالحياة , و لعل اقتباسه القرآني في ومضة أخرى إذ يقول :
أحزان عمرك
لا تبقى
و لا تذر
و في العديد من قصائد ديوانه ” طعم الحكايا القديمة ” و دواوينه الأخرى – “بئر معطلة ” نموذجا – الاقتباس القرآني و التراثي ,من الأمور اللافتة للاهتمام, فإن شاعرنا ثقافته عربية رصينة و لا جدال .
و لعلي أختم كلمتي المختصرة ,عن ديوان شاعرنا الجميل “أشرف قاسم “بومضة من ومضاته ذكرتني حين قرأتها بالدكتور “فوزي خضر” في ديوانه ” من سيرة الجواد المعاند ” – و قد أفردت له الفصل الأول من كتابي ” العودة إلى الجذور ” حيث أن كلا من أستاذي فوزي و صديقي أشرف ,كلاهما متمسك بطموحه, و شموخه ,و يسعى للتحقق في ظل أقسى الظروف , يقول “أشرف قاسم” من تفعيلة فعولن – بحرالمتقارب , و الروي / الميم المسكّنة ,بما يعطي إيقاعا منتظما صادما, يصك الوجدان قبل الآذان ,معتمدا على التناقض بين حالين من جديد / الشامخ في مقابل التافه :
تقدمْ
لتنقش في صفحة العمر سطرا
لتبقى على جدر الدهر
حيا شموخا
إذا الموت أقدمْ
سنابك هذا الزمان
ستمضي
على جثث التافهين
و يبقى حماك عليها
محرمْ !!
و يقول الشاعر “فوزي خضر ” من تفعيلة المتدارك – فاعلن :
و الجوادْ
شعلةٌ من عنادْ
رغم أن دماه على أرضه
تحرق الرمل
تحرق حتى قلوب الحصى
لم يزل ساعيا
مؤمنا أنه …
لا ينالُ المرادُ
بغير الجهادْ
كلاهما استخدم الفعل المضارع للدلالة على استمرارية الكفاح و عدم انقطاع الحياة و كلاهما اعتمد تصويرا شعريا يمتلي بالدراما و الحركة و كأننا بإزاء مشهد سينمائي بامتياز .
فهنيئا لنا هذا الديوان الجيد الجديد و هنئيا لنا كل تجربة إبداعية تضيف جديدا إلى بناء لغتنا العربية الشامخة .
- الإسكندرية
غلاف الكتاب