مقالات وآراء

الذكاء الاصطناعي .. فرصة إقتصادية أم تهديد اجتماعي؟

بقلم – وجدي بدوي:

في غضون عقد واحد فقط ، تحوّل الذكاء الاصطناعي من أداة تجريبية إلى محرّك أساسي للنمو العالمي. نرى الحكومات تسابق الزمن لإصدار استراتيجيات وطنية بينما تعيد الشركات هيكلة نماذج أعمالها، فيما يقف ملايين الموظفين أمام سؤال وجودي: هل يحقق الذكاء الاصطناعي استقرار وظيفي؟

لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد تقنية في مختبرات الشركات، بل أصبح قوة محركة تعيد تشكيل الأسواق وسلاسل القيمة حول العالم من وول ستريت إلى وادي السيليكون ومن دبي إلى سنغافورة، يتحدث الجميع اليوم عن الفرص الهائلة لزيادة الإنتاجية، لكن ربما يختبئ خلف هذه الوعود تهديد صامت: البطالة المتزايدة واتساع الفجوة الاجتماعية.

من عصر الزراعة الريعية إلى الخوارزميات

لطالما عاشت البشرية انتقالات اقتصادية كبرى: من الزراعة إلى الثورة الصناعية ثم إلى الاقتصاد الرقمي ، لكن ما يحدث اليوم أعمق من كل ما سبق ، حيث ان الذكاء الاصطناعي لا يضيف مجرد أدوات جديدة فقط ، بل يعيد صياغة معادلة العمل نفسها، فلم تعد الآلة تُكمّل الإنسان بل تنافسه بشكل مباشر.

جهود الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا)

لعبت الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي (سدايا) منذ ان تأسست عام 2019 دورًا محوريًا في قيادة التحول الرقمي وتعزيز موقع المملكة كقوة صاعدة في مجال الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، تضم سدايا المركز الوطني للذكاء الاصطناعي و مكتب إدارة البيانات الوطنية ومركز المعلومات الوطني، أطلقت سدايا الاستراتيجية الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي بهدف وضع المملكة بين أفضل 15 دولة عالميًا في الذكاء الاصطناعي بحلول 2030، واستقطاب استثمارات ضخمة وتمكين 300 شركة ناشئة ، أطلقت سدايا منصة البيانات المفتوحة التي تتضمن أكثر من 11,400 مجموعة بيانات من 289 جهة حكومية لتعزيز الشفافية وتمكين البحث والابتكار، كما أطلقت (منصة ديم) اللتي تعد السحابة الحكومية الأكبر في الشرق الأوسط ، وضعت سدايا أطر تنظيمية لحماية البيانات وضمان الاستخدام المسؤول للتقنيات، بما يتوافق مع نظام حماية البيانات الشخصية، ونالت بذلك جائزة أفضل مشروع تقني عن بنك البيانات الوطني وشهادة أمن المعلومات وجوائز ابتكار المشاريع التقنية مثل (ديم) و (توكلنا) للخدمات الرقمية، ولا تزال جهودها مستمرة في جذب استثمارات ضخمة للبنية التحتية التقنية.

الإمارات: مختبر عربي للمستقبل

برزت الإمارات كأحد أبرز النماذج في المنطقة العربية التي وضعت الذكاء الاصطناعي في قلب سياساتها الاقتصادية، برز ذلك في تأسيس وزارة للذكاء الاصطناعي و إطلاق استراتيجية وطنية وتسخير أبوظبي ودبي لتكونا مختبرًا مفتوحًا للتجربة الاقتصادية الجديدة ، والنتيجة؟ زيادة في الكفاءة الاقتصادية وجذب للاستثمارات، لكن النقاش مستمر حول كيفية حماية الوظائف وضمان العدالة الاجتماعية للأجيال القادمة

معادلة الايدي العاملة مقابل التقنية: من يربح ومن يخسر؟

تشير النماذج الاقتصادية إلى ثلاثة سيناريوهات رئيسية:

– التقنية البحتة: قفزة كبيرة في الإنتاجية، يقابلها ارتفاع البطالة والتضخم.

– الموازنة الذكية: إنتاجية مستقرة مع بطالة معتدلة وعدالة اجتماعية مقبولة

– الاستخدام المفرط: نمو اقتصادي قصير الأجل يقابله خلل اجتماعي طويل الأمد و خلل اجتماعي عميق.

والمعضلة هنا واضحة: كلما ارتفع مؤشر الإنتاجية، ارتفعت معه البطالة والتضخم ما لم تتدخل الدولة بسياسات تصحيحية.

بين الرأسمالية و الاشتراكية في عصر الآلة

برعت الرأسمالية في الابتكار وزيادة الكفاءة لتسريع الأرباح، لكنها تُعرّض العمالة لموجات تسريح واسعة ، وعلى العكس، تشرع الاشتراكية في فرض ضرائب مباشرة على استخدام التقنية ووضع الإعانات الاجتماعية لحماية الوظائف المهنية ولكنها اقل فعالية من الرأسمالية في ريادة الابتكار، في عالم الذكاء الاصطناعي لا يوجد نموذج مثالي وهذا يفتح المجالات لبناء خليط واقعي يجمع بين قوة الرأسمالية والتوازن المجتمعي في الاشتراكية.

الضرائب على الروبوتات: فكرة تتبلور لتكون سياسة محتملة

يهتم الاقتصاديين بمبدأ الضرايب للحد من الافراط في الاستهلاك ، على سبيل المثال: فرضت الحكومات ضرائب على التبغ والسكّر لحماية الصحة العامة، لذلك يطرح اقتصاديون اليوم فكرة فرض “ضريبة على الأتمتة” لحماية المجتمع من التكلفة الاجتماعية للبطالة و تحقيق مبدأ العدالة المجتمعية. ليس بالضرورة ان تشكل هذه الضريبة عقوبة على الشركات، بل وسيلة لإعادة توزيع عوائد التقنية نحو برامج التدريب وإعادة التأهيل لتحقيق اقتصاديات مستدامة ، ليس التحدي هنا تقنيا بقدر ما هو اجتماعي و سياسي.

تطبيقات مبادرة من بعض دول العالم

أطلقت سنغافورة برنامج تحت شعار “مهارات المستقبل” لإعادة تأهيل العاملين بشكل مستمر لمواكبة استخدام الذكاء الصناعي كأدوات تحليلية او لتحسين الكفاءة، و منحت كوريا الجنوبية إعفاءات ضريبية للشركات التي تعيد تدريب موظفيها بدلا تسريحهم كنوع من التسهيلات التجارية التحفيزية، بينما نجد الاتحاد الأوروبي وكندا يناقشان سياسات الدخل الأساسي الشامل لتأمين حد أدنى من المعيشة للجميع، تكشف محصلة هذه التجارب شيئًا واحدًا وهو ان الذكاء الاصطناعي ليس مجرد خيار تكنولوجي، بل عارض اجتماعي واقتصادي يحتاج إلى أدوات سياسية مرنة تحد من الافراط في استخدامه وتقلل من تبعاته السلبية على الاقتصاد مثل التضخم و البطالة و والعجز المالي.

هل يعيش الذكاء الاصطناعي فقاعة شبيهة بفترة الدوت كوم… أم أنه يعيد كتابة قواعد العمل؟

اجتاحت العالم موجة الاستثمار في شركات الإنترنت في أواخر التسعينات فيما عُرف بـ “فقاعة الدوت كوم”، تدفقت ملايين الدولارات إلى شركات ناشئة لم تحقق أرباحًا وانهارت غالبيتها لاحقًا، وبقي الناجون مثل أمازون و جوجل ممن أعادوا رسم خريطة الاقتصاد، واليوم و في مشهد مشابه نجد العالم يقف مع الذكاء الاصطناعي، حيث نشهد استثمارات مليارية وتقييمات فلكية لشركات ناشئة وصورة إعلامية تصوّر الذكاء الاصطناعي كحل سحري لكل شيء، كون الإنترنت قطاعًا جديدًا أما الذكاء الاصطناعي فهو تكنولوجيا عابرة للقطاعات تدخل في التعليم والطب والصناعة والتمويل فتعيد تشكيل القطاعات الحالية، أضاف الإنترنت وظائف أكثر مما ألغى ، بينما يهدد الذكاء الاصطناعي وظائف قائمة مباشرة مثل المحاسبة والترجمة وخدمة العملاء، من المتوقع ان يخلق الذكاء الاصطناعي وظائف جديدة، لكنها لن تكون متاحة للجميع بنفس السهولة ، ستظل هناك مساحة واسعة للوظائف الإبداعية والإنسانية التي يصعب أتمتتها وسوف تزداد الحاجة إلى وظائف عالية المهارة مثل مهندسي البيانات وخبراء السياسات والأخلاقيات ، بالمقابل ستنكمش وظائف المهارات المتوسطة ذات الطابع الروتيني.

الخلاصة: التكنولوجيا بلا عدالة لا تصنع مستقبلًا

يدخل العالم عصرًا جديدًا تُحدده الخوارزميات أكثر من اليد العاملة، لكن نجاح هذا التحول لن يُقاس فقط بزيادة الناتج المحلي، بل بقدرتنا على الحفاظ على العدالة الاجتماعية في تحدي تربح فيه الدول التي تجيد التوازن بين الكفاءة الاقتصادية واستقرار الوظائف.

وختاما … ليس الذكاء الاصطناعي عدوًا ولا صديقًا… إنه مرآة لخياراتنا نحو مستقبل أفضل

«كلما ارتفع مؤشر الإنتاجية، ارتفعت معه البطالة ما لم تتدخل الدولة بسياسات ذكية»

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى