حين نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية

بقلم – محمد البكر :
نأتي إلى الدنيا ونحن سواسية… هكذا قال أبو العتاهية منذ قرون ، وما زالت كلماته تلك تقرع أبواب الوعي ، وتضع الحقيقة في وجه الزيف ، والعِبرة في قلب الغافل .
حين يولد الإنسان ، لا تسبقه راية ، ولا يُستقبل بتصفيق ، لا تميّزه عمامة ، ولا تُسجَّل على جبينه رتبته الاجتماعية . يولد كما يولد أي إنسان ، صارخاً يبحث عن دفء ، وعن حضن أمه . لا يعرف المجد ، ولا الفقر ، ولا الأصل ، ولا الفرع . فهو مجرد زائر جديد.
لكن ما إن يمشي أولى خطواته في هذه الحياة ، حتى يبدأ من حوله في صناعة الفوارق بينه وبين أقرانه . تُفرَض عليه طبقاتٌ من التمييز … من النسب والحسب ، ومن المال والجاه . فيُرفع هذا ، ويُداس ذاك ، وكأنهم لم يولدوا جميعاً عُراة ، ضعفاء ، يبكون لذات السبب ، ويرتجفون من ذات البرد .
بيت أبي العتاهية هذا لا يمرّ كحكمة تُروى فحسب ، بل هو مرآة للضمير الإنساني . يوقظ فينا سؤالاً بطعم العلقم … إن كنا فعلاً نأتي سواسية ، فلماذا نعيش بتعالٍ وتمييز؟ لماذا نُقيّم الناس بما يملكون ، لا بما يكونون؟ ولماذا ننسى أننا – مهما علت بنا الدنيا – سنعود يومًا سواسية تحت التراب أيضاً ؟
في زمنٍ تعاظمت فيه الفروقات بين البشر ، وتكاثرت فيه الألقاب ، يبقى هذا البيت شعلة لا تنطفئ ، بأن الأصل في الإنسان إنسانيته ، لا لقبه ، ولا نسبه ، ولا حسابه البنكي . فالمقياس الحقيقي للرفعة ليس ما نملكه ، بل ما نمنحه لمجتمعنا وللناس أجمعين ، وما نتركه للأجيال القادمة من أثر بعد رحيلنا .
لقد قالها أبو العتاهية ، ومضى . لكن كلماته – وكما قلت – بقيت ، لأن فيها صدقاً يوقظ ، وبساطةً تفجّر الوعي ، وميزاناً يعيد لكل إنسان قيمته ، مهما كانت مكانته .




