ما بعد الستين .. حين يصبح العمر حكمة تمشي على قدمين

بقلم – خميس بن عبدالرحمن الهزيم :
في اليابان، حيث تتقاطع الحداثة مع روحٍ تهفو إلى السكينة، ظهر كتابٌ صغير في حجمه، عميقٌ في أثره، حمل عنوان «حاجز الثمانين»، وخلّف وراءه ضجّة تشبه تلك التي تُحدثها نسمة باردة في قيظ الصيف؛ هادئة، لكنّها توقظك من غفلة. المؤلّف، عالم النفس هيديكي وادا، لم يكتب عن الشيخوخة بوصفها محطةً أخيرة، بل بوصفها عتبة نور تُطلّ منها النفس على معناها الأصفى.
وما إن لامست كلماته رفوف المكتبات حتى تجاوز قرّاؤه نصف مليون، كأنّ الناس وجدوا فيه مرآةً تُصلح ما تشوّه في الداخل، أو خارطةً صغيرة تهديهم إلى دربٍ أكثر ليناً من تلك التي اعتادوا السير عليها. فالرجل، البالغ من العمر إحدى وستين سنة، لم يأت ليقدّم وصفات جاهزة، بل خلاصة عمرٍ من الاقتراب من قلوب كبار السن… خلاصةُ خبرةٍ صاغها في أربعٍ وأربعين قاعدة، بسيطة في ظاهرها، لكنّها مشبعة بروح الحياة.
هو يقول: امشوا كل يوم… وكأنّه يهمس بأن الحركة ليست تمريناً للجسد فقط، بل حياةٌ للروح. تنفّسوا بعمق عند الغضب… فالهدوء ليس ضعفاً بل سيطرة على العاصفة. ويذكّر بأن الجسد حين يُهمل يصدأ، وأن العقل حين يتوقف عن المضغ يتوقف عن التفكير. ويُخبرنا أنّ الذاكرة لا تهرم، بل تُهمَل؛ وأن الإفراط في الأدوية قد يسرق من العمر أكثر مما يمنحه.
وفي نصائحه حنوّ الأب ودهشة الطفل:
لا تخافوا الوحدة… فهي أحياناً شكلٌ آخر من السلام.
وإن كبرتم، فلا حاجة لأن تتمسّكوا برخصة السياقة أو بما يرهقكم؛ خفّفوا أثقالكم لتخفّ أرواحكم.
كلوا ما يسعدكم، لا ما يُفترض أن يسعد الآخرين.
لا تجالسوا من يكدّر صفوكم، واقتربوا ممّن تبتسم له قلوبكم قبل وجوهكم.
وتعلّموا التعايش مع المرض، فالمعركة الدائمة تستنزف أكثر مما تُداوي.
ثم يعود ليهمس: التفاؤل دواء… والابتسامة حظّ.
إنّها قواعد تُشبه قطرات مطر: صغيرة، لكنها قادرة على إحياء أرضٍ عطشى.
تقول لك بأن السعادة ليست ركضاً، بل وقوفٌ مطمئنّ تحت شمسٍ دافئة، وبأن الشيخوخة ليست عبئاً، بل هديّة تُنضج ما لم يكتمل فيك، وتُصفّي ما ازدحم في روحك من ضجيج السنين.
ومع كل قاعدة نلمح رسالة أعمق:
السنوات التي تلي الستين ليست انحداراً نحو النهاية، بل صعوداً هادئاً نحو ذاتٍ أكثر صدقاً.
إنّها بدايات أخرى، تتخفّف فيها النفس من صخب الحياة، وتتعلم فيها كيف ترى العالم بألوانٍ أهدأ، وكيف تسمع نبضها الداخلي بوضوح أكبر.
وفي الختام نستطيع القول
عش ببساطة.
تحرّك، وابتسم.
صافح جسدك وسنّك بمحبة.
وحين تفعل… ستكتشف أنّ السعادة لم تكن بعيدة يوماً، بل كانت تنتظرك عند حاجزٍ صغير… اسمه الرضا.




