خطبتا الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي
مكة المكرمة / المدينة المنورة-واس:
أوصى فضيلة إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبد الرحمن بن عبدالعزيز السديس المسلمين بتقوى الله, مبيناً أَنَّ التقوى نُورُ القُلُوبِ وَمِشْكَاتُهَا، وَسَبِيلُ مَحَبَّة الله وَمِرْقَاتُهَا وَبُرْهَانُ رَهْبَتِهِ وَدَلاَلاَتُها, مستشهداً بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
وقال في خطبة الجمعة اليوم بالمسجد الحرام: “إن عقيدتنا سمحة صافية، حيث روى الإمام أحمد في مسنده أن رسول الله قال: “بعثت بالحنيفية السمحة”، وسبيل النجاة والفكاك الحذر من سبل الإلحاد والإشراك، فإنها تورد موارد العطب والهلاك، وكذا البدع والمُخَالَفَات والمحدثات المُخَالِفَات ومسالك الخرافة والشعوذة والخزعبلات، ولما استبدل بعض الناس في أعقاب الزمن بنور الوحيين سواهما استبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير، فأعرض فئام عن منهج النبوة والصحابة والسلف الصالح خير القرون، وابتُلُوا بالفِرَق والاختلافات، والطوائف والانقسامات، واعتقد بعضهم بالأنواء والأيام والشهور والأعوام، وقد أجمع المحققون ومنهم الحافظ ابن حجر، وابن رجب، وشيخ الإسلام، والشوكاني وغيرهم على أنه لم يثبت في شهر رجب حديث صحيح ولا ضعيف يصلح للحجة، وإنما حديث شديد الضعف أو موضوع ولم يصح، فلا يشرع إحداث عبادة ليس عليها دليل من الكتاب والسنة، أو عمل سلف الأمة، وكل خير في اتباع من سلف، وكل شر من ابتداع من خلف”.
وأكد الشيخ السديس أنه ليس بخافٍ على أولي الألباب أنَّ حياة الإنسان ما هي إلا مراحل، وعُمره فيها منازل، وإن مما قررته المدنية الحديثة، والنظام العالمي المعاصر؛ تلك النُظُم الوظيفية، والقواعد التنظيمية للأعمال والوظائف، مشيراً إلى أن الإنسان يتقلب في مراحل حياته بين الأعمال ودرجاتها، والوظائف وترقياتها، حتى يبلغ درجة التقاعد؛ وتلك قضية آنِيَّةٌ مهمة لفئة عزيزة غالية قدمت زهرة شبابها، ولُبَاب أعمارها في خدمة دينها ووطنها ومجتمعها، تكدح في أعمالها ثم تترجل عنها؛ لتتيح المجال الوظيفي لغيرها من الشباب الصاعد، وهكذا تمضي الحياة في تقلباتها وتنقلاتها، مستشهداً بقوله تعالى (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ).
وأشار إلى أن هذا التصنيف الوظيفي -متقاعد / غير متقاعد- ليس نهاية المطاف، وليس حُكمًا على الإنسان بالموت الزُّعاف، وليس منعًا للمتقاعدين من مزيد العطاء في خدمة دينهم ووطنهم وولاة أمرهم ومجتمعهم في ميادين أخرى، فهذاً تصنيفٌ لا يصلح أن يسري أبدًا على بقية حياة المتقاعد، لكن المتقاعد قد وُلِدَ ولادةً جديدة، مؤكداً أن صاحبُ الهمة العالية إذا بلغ هدفًا بحَث عن هدفٍ آخر مثله أو أَسمى منه ليصل إِليه، ولا يوقفه عن استباقه لمجد الدنيا والآخرة إلا توقُّفُ نَفَسِه أو ضَعْفُ ذاته.
ووجه السديس رسالة إلى المتقاعدين قائلاً: “قد زادت مسؤولياتكم بعد أن كان النِّطاق الحكومي يُحَدِّدها في مجال اختصاصكم وعملكم فقط، أما اليوم فأمامكم الفُرَص والدنيا بأسرها، والأعمالُ كلها، والميادين جميعها، فمسؤوليتكم ليست عن أُسَركم أو حيِّكم أو مدينتكم فقط، بل أنتم مسؤولون عن كلِّ مسلم بالتوجيه والنصح والإرشاد والتوعية، ولقد أَحسن وأجاد من قال:” لا تقاعُدَ لمن أراد أن يعيش في أمَّة جديرة بالحضارة والتقدُّم”، ونحن أمة الحضارة والتقدم منذ الأزل، لذا كان السلف يكرهون أن يكون الرجل فارغا من العمـل، قال الفاروق عمر بن الخطاب “إني لأكره أن أرى أحدكم فارغاً سَبَهْلَلاً، لا في عمل دنياه ولا في عمل آخرته”، والسَّبَهْلَلُ: الذي يجيء ويذهب في غير شيء، فنحن أمة العمل والعبادة قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ).
وأضاف: “أيها المترجلون عن صهوة جواد الدوام النظامي؛ إنَّ أعماركم رؤوس أموالكم، ورصيدكم الذي ينفعكم في الدنيا والآخرة، فاغتنموها بالأعمال الصالحة قبل فواتها، وكما أن الإنسان مسؤولٌ عن عمره، فهو أيضًا مسؤولٌ عن عِلْمِهِ وخِبْرَتِهِ، فينقل خِبْرَتَهُ للأجيال اللاحقة، ولا يبخل عليهم بالرأي والمشورة، والتوجيه والنصيحة، كونوا المِرْآة العاكسة لِجَمال الشريعةِ ومَبادِئها العِظام، وخيْرِيّتِها عن سائر الأنام، وتلك هي المَدَاميك التي تُحَقِّق الطّموحات ذات العزيمة، وتشمَخِرُّ عنها المجتمعات المترَاصّة الكريمة، لا تركن أيها المتقاعد إلى الكسل والوهن، وانْبَعِثْ في الخَيْرِ ومَيَادِينِه، وتنسَّم شذى رَيَاحِينه، مهما تنوعت أشكاله، وتعددت مجالاته، عِلميّة أو خيرية، إيمانية أو طِبِّيّة، إنسانِيّة أو عُمْرانِيّة: أَغِثْ مَلهوفَا، ابْذُلْ معروفَا، آسِ مكلومَا، انْصُر مظلومَا، صِلْ محروما، كن مفتاحًا للخير إيجابياً في حب الخير للناس، ولاسيما الأهل والأقارب والجيران، والحذر من الزراية بهم، فلا خير فيمن لا يعرف للسابق فضله، والأمم والمجتمعات الراقية جعلت لهم مؤسسات وجمعيات تعنى بشؤونهم وتتكفل بحقوقهم وتحقق خدماتهم وتفيد منهم في إثراء تجاربهم كبيوت خبرة ومكاتب استشارية متنقلة تستثمر في العقول وتفيد من التجارب.
وحث إمام المسجد الحرام الموظفين على أن يكونوا قدوةً في المحافظة على الأمانة والمسؤولية، والنزاهة ومكافحة الفساد، والانضباطِ في الحضور والانصراف والإنتاجية، وحُسن معاملة المراجعين، وعدمِ استغلال سُلْطَةِ الوظيفة، والحفاظِ على الأموال العامة ومقدَّرات البلدان ومكتسبات الأوطان، كونهم اليوم قدوة للشباب، وحثهم أيضا على إعطاءهم من الخبرة التي يمتلكونها كما أخذوها من خبرة غيرهم، مبيناً أن الدين الإسلامي دين العمل والعبادة، فلا رهبانية فيه ولا تواكل.
وأكد أن الواجب على العبد أن يكون قدوة في طاعة الله تعالى، وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر، خاصة في ظل الأزمات والنوازل والجوائح، التي تحتاج إلى تكاتف وتعاون الجميع، ولا يزال التذكير مستمراً بأهمية التقيد بالإجراءات الاحترازية، والتدابير الوقائية، والاشتراطات الصحية، حرصا على صحة وسلامة الجميع، مشيراً إلى أن الإجراءات والاحترازات من الأخذ بالأسباب التي جاءت بها الشريعة الغرَّاء تحقيقًا لقوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)، لاسيما مع انتشار الموجة المتجددة والسلالة المتحورة من الجائحة؛ مما يتطلب الحذر والجدية في تطبيق الاحترازات، خاصة التباعد الجسدي، وعدم التجمعات، ولبس الكمامات، والحرص على غسل اليدين وتعقيمهما، وأن تكون المصافحة في القلوب.
وأشاد الشيخ السديس بالوعي المجتمعي في تحقيق الإجراءات، معرجاً على الأشخاص غير الملتزمين بالإجراءات الوقائية قائلاً: “إن في الناس متهاونين غير مبالين، يجرون لأنفسهم ولمجتمعهم أسباب العدوى وانتشار الوباء، ولهذا فإن الحزم مع هؤلاء هو الأجدى، ولولي الأمر سَنُّ التعزيرات والأنظمة الصارمة في الأخذ على أيدي هؤلاء وردعهم حتى لا يجروا الضرر لأنفسهم وغيرهم، ويُؤثِّروا على مُقَدَّراتِ ومُكْتَسبات أوطانهم ومجتمعاتهم.
ودعا فضيلته الجميع إلى السعي للحصول على اللقاحات في حينها، والمشاركة في التطبيقات والمنصات المخصصة لذلك، وقال: “ما أنزل الله من داء إلا وأنزل له شفاء، علمه من علمه وجهله من جهله” رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام: “تداووا عباد الله ولا تتداووا بحرام” رواه أحمد وأبو داود، محذراً من التشكيك والتشغيب على الجهات المعنية ونشر الشائعات المغرضة، والافتراءات الكاذبة، عن هذه اللقاحات المأمونة وغيرها، متعجباً ممن يُسْلِمُونَ عقولهم ويسلسلون أفكارهم لكل شائعة ويصدقون كل ذائعة دون تثبت وروية، حيث أضحت تلك الحملات المغرضة المجندة والممنهجة والمؤدلجة حرباً سافرة غير خافية على كل ذي لُبّ، ضد ديننا ووطننا وقياداتنا، مما يتطلب الوقوف صفًّا واحدًا.
وفي المدينة المنورة عد فضيلة إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن البعيجان الدنيا بأنها متاع الغرور وميدان الامتحان والابتلاء, والآخرة دار البقاء والحساب والجزاء, فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره, وتقوى الله فيما أمر وانتهوا عما نهى عنه وزجر, قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ).
وأوضح في خطبة الجمعة اليوم بالمسجد النبوي أن أجزاء الزمان متشابهة في الظاهر لكن الله فضل وعظم بعض الأوقات وجعل فيها مزيداً من الخصائص والبركات, ففضل على جميع الليالي ليلة القدر, مشيراً إلى فضل يوم الجمعة ويوم عرفة على سائر الأيام وجعل رمضان أفضل الشهور, حيث أنزل فيه القرآن وفرض الصيام وعظم حرمة الأشهر الحرم بنص القرآن وحذر من انتهاك حرمتها, مسشتهداً بقوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) وأكدها النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة الوداع.
وأشار فضيلته إلى أن الإسراف على النفس باقتراف المحرمات وارتكاب المحظورات وتعريض النفس للعقاب وللمساءلة والحساب كله داخل في ظلم النفس وانتهاك حرمة الأشهر الحرم, مسشتهداً بقوله تعالى (فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ), مبيناً شفقة النبي صلى الله عليه وسلم على أمته وكما يختار لأمته أيسر الأعمال كي لا يشق عليهم وحث المسلمين على توطين النفس على الطاعة والإستعانة عليها بالتوبة والاستغفار والأوبة والإنكسار لله تعالى ومراقبة الله تعالى في السر والعلن، قال تعالى: (وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ ).
وأضاف: “إن الله تعالى لم يخلق الخلق إلا لطاعته وأن الحرص على عبادته يفضي إلى الظفر بمرضاته والفوز بجناته, حاثاً على اغتنام فرصة فاضل الأوقات والكف عن المحظورات والاستعداد للقاء الله فالخير لمن طال عمره وحسن عمله, والشر لمن طال عمره وساء عمله قال جل من قائل: (وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا ۚ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا ۚ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ ۖ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ).
وشدد إمام وخطيب المسجد النبوي على أن تعظيم حرمة الأشهر الحرم واغتنام فاضل الأوقات باعث على الشعور بمراقبة الله وتجديد العهد والمراجعة ومحاسبة النفس وضبطها, والجد والعزم والاجتهاد في تزكية وتربية النفس، حاثاً على الحرص على هذه الأوقات والمسارعة قبل الفوات, وتجديد العهد مع الله, محذرًا من التسويف كونه ضياع وتفويت للفرص وتطفيف, داعيًا إلى مبادرة الحياة قبل الموت والفراغ قبل الشغل والغنا قبل الفقر والشباب قبل الهرم والصحة قبل السقم.