مقالات

صلاة أمي …

بقلم – عبدالله الفارسي:

 

لا أدري حين أتذكر طفولتي أصاب بنوبة ضحك ..
كنت طفلا غريبا ..
فعلا غريبا ..
كنت إسأل أمي حين تصلي .. ماذا تفعلين ؟

فتقول أصلي ..
فأقول لها بكل براءة..
ولماذا تصلين .!!

فتجيبني بعفويتها المطلقة ” إصلي لربي الذي خلقني .”

كانت تصلي بطريقة هادئة خاشعة … ساكنة
وتهمس بصوت خافت .

كانت صلاتها تختلف كثيرا عن صلاة أبي السريعة المهلهلة ..
أبي كان سريعا في كل شيء خاصة الصلاة..
أما أمي فكانت هادئة في كل شيء خاصة في الصلاة .

كانت أمي في نهاية صلاتها ترفع يديها وتظل مرفوعة فترة طويلة ثم تمسح وجهها ويديها وكل جسدها بطريقة ساكنة هادئة وتظل بعد الصلاة عدة دقائق وكأنها تتمتم أو تتحادث مع شخصا ما .

كنت أراقبها .. وأنا مكتنز بالعجب ..
وأحيانا أجلس بجانبها وأحاول النظر إلى السقف لعلي أرى من هذا الذي تحادثه أمي .
دون أن أعي ماذا تفعل أمي .. وماذا أصابها .

كبرت تلك التساؤلات معي .. فأصبحت مزعجة جدا .

تعلمت الصلاة .. ولكنني لم أتقن “صلاة أمي” .

كنت أصلي كما يصلي الناس ولكني لم أشعر بتلك الأحاسيس اللذيذة التي يتحدث عنها المؤمنون الصادقون ..

ظلت قضية الصلاة تشغلني فترة طويلة ..
وكلما تعمقت في القضية اكتشفت بأن الصلاة من أهم القضايا الدقيقة والمهمة في الإسلام .

حافظت على الصلاة ليس لأنها فريضة وإنما كنت أواظب عليها بحثا عن تلك النشوة التي تسمى “الإطمئنان” ..

كنت أبحث عن تلك النقطة البعيدة التي تصل إليها “أمي” في ختام صلواتها ..
كنت أبحث عن ذلك الاطمئنان الذي يصيب ” أمي” فورا نهاية كل الصلاة ..

كنت أجتهد فيها أيما اجتهاد بحثا عن “الإطمئنان” ولكن لا أتذكر أنني حصلت عليه أو أدركته في أي صلاة من صلواتي الكثيرات .

ظللت محافظا عليها حتى دخولي الجامعة ..

وفي الجامعة حصلت لي إنتكاسة كبيرة جدا ..
لسببين..
دراستي للفلسفة ووجود أستاذ للفلسفة كان ملحدا إلى حد ما .. أستطاع أن يحولني بسهولة إلى ملحد صغير ..

كان الأستاذ يحاضر لنا مادة بعنوان فلسفة العصور الوسطى ..

المادة كانت طبيعية وشيقة لكنه كان يوظف موهبته الكبيرة في تحليل الفكر الفلسفي بطريقة عجيبة جدا .. ومؤثرة جدا .

طبعا هنا يأتي دور المتلقي والمستمع.. فليس كل مستمع يدرك أهمية الكلمة المسموعة وصخبها ومعدل تأثيرها

فليست كل العقول على نفس المقدار من الوعي والإدراك .
كان مسلما .. ولكنه لم يكن ملتزما بضوابط الاسلام ولا بفرائضه ..

وحين دخلت معه في نقاشات عميقة عن الإسلام أستطاع أن يتمكن مني ويقنعني بأن الدين مجرد إحساس نفسي وشعور داخلي فقط .

استطاع أن يقنعني بأن الدين لا يحتاج لكل هذه الفرائض والكتب والمناهج والشروط والقواعد . . فتركت الصلاة فترة قصيرة ..
ثم عدت إليها .. ثم تركتها فترة أطول..ثم عدت إليها .

فظلت علاقتي مع الصلاة متوترة جدا ..
وعشت شهورا في صراع مرير مع النفس والشيطان والهوى .

فأخذت اقرأ قصص الملحدين وتاريخ الزنادقة عير التاريخ ..

فأمتلات غرفتي بكتب ومجلات تحمل عنوانين فقط
الإلحاد .. والزندقة .

في إحدى الأمسيات دخل بيتي صديق عزيز فتفاجأ بتلك الكتب وذهل فقال ما هذا .. يبدو أن لديك مشروعا إلحاديا عظيما !!.

فقلت له : لا أبدا .. وإنما هو بحث عن إجابة على تساؤل وحيد .. وهل الدين هو طريقنا الوحيد الى الله ؟؟

عشت سنوات بعد تخرجي و أنا في حالة مضطربة من التفكير .

كنت أصلي .. ولكني لم أشعرا يوما بأن الصلاة تحقنني بما أريده وأشتهيه ..
لم تعطيني الصلاة تلك الدفقة الشعورية التي أنشدها ..
لم تحقنني بتلك النشوة التي يتحدث عنها الفقهاء والصالحين .

لكنني كنت مدرك لأهمية الصلاة وخطورتها .. وأن قطعها .. هو قطع الحبل السري بيني وبين الله …

 

ظل الحبل السري موصولا لم ينقطع .. لكن لم تكن هناك تلك الإمدادات القوية الثرية بالإيمان ..

ظلت تساؤلاتي تكبر وتعصف بالروح ..

والغريب أنه كلما بحثت وقرأت وتعمقت كلما أبتعد القلب عن مركز الإيمان .. وأنحرف بعيدا .

أصبحت النظرية معي تسير بالعكس ..
المفترض كلما درست وتعلمت وارتفع معدل المعرفة لدي .. كلما اقتربت أكثر من جوهر الإيمان وحقيقة الدين ..

بعثت رسالة لأستاذ كبير في الفلسفة يعيش في فرنسا ..
فرد علي .. ( لا تعتقد بأنك ستصل إلى الحقيقة من خلال الفلسفة أو العلم ..أبحث عن حقيقة الإيمان في الأشياء البسيطة التي حولك .

عش مع البسطاء ..
عش مع الفقراء ..
التصق بالطبيعة ..
وستصل إلى حقيقة الإيمان وسيهدأ قلبك المضطرب ..)

وهنا تذكرت المقولة الشهيرة لسيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين كان يردد دائما هذا الدعاء الجميل :
” اللهم إني أسألك إيمانا كإيمان العجائز “..

الطريق الى الإيمان هو في بساطة الفكر ..
الطريق الى النور في بساطة الحياة .

لن ترى نور الله واضحا في السيارات والطائرات والتكنولوجيا كما أنك حتما لن تراه في الهواتف النقالة وفي مصابيح الشوارع وفي خلايا الطاقة الشمسية وفي الأزدحامات ..

بل ستراه بوضوح في الصحراء .. في الخيمة .. في الرمال .. في حنين الناقة .. في ثغاء الماعز .. وفي هفهفة النسيم .. في زقزقة العصفور .. في هديل الحمام .. وفي صفير الريح .

آخر جملة قالها لي : ..
ضوء الإيمان كضوء القمر .. لن ترى ضياءه وجماله في مدينة ملئية بالمصابيح والسيارات

بل ستراه ساطعا باسقا في الصحراء .. في السهول والبراري .. وفي السفوح والوهاد .

منذ تلك اللحظة وأنا أعشق الطبيعة ..
أحب الفقراء البسطاء
أحب البداوة .. وأكره المدن المزدحمة ..

ومازلت محافظا على صلواتي .. ما زلت أصلي .. وأصلي رغم التساؤلات الكثيرة المزعجة .. .. ولكن أيضا مازلت حتى اللحظة لم أتقن تلك الصلاة العجيبة التي كانت تمارسها وتتقنها ” أمي” .!!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى