ثقافة

اجتهاد نقدي من وحي ديوان واحد للشاعر محمد الطنوبي

IMG_4983

بقلم / عاطف عبد العزيز الحناوي*

ربما دار جدل محتدم بين فريقين حول العامية و هل هي لغة أم لهجة أم هي مجموعة من اللهجات التي تتباين حينا و تتقارب حينا و إني في هذه القضية أرى ما رآه العقاد في كتابه اللغة الشاعرة إذ يقول في صفحة 31 -32 و بتصرف يسير: و يخلص لنا من جملة هذه الخصائص في الشعر العربي و اللغة العربية أن فن النظم بهذه اللغة فن دقيق كامل الأداة مستغن بأوزانه عن سائر الفنون و لكنه – على هذا – فن مطبوع لا كلفة فيه على قائل ذي قدرة على التعبير له نصيب من الشاعرية و الملكة الفنية و ليس أدل على كذب الزعم القائل بصعوبة الأوزان المتبعة في النظم العربي ليس أدل على سخافة هذا الزعم من نظم القصص و الملاحم و السير الشعبية و الأغاني و الأناشيد و الحكم باللهجات العامية الدارجة و من أناس لا حظ لهم كبير من التعليم و الثقافة ..
و بناء عليه فإن شعر العامية و الأزجال تحفل بالمفاهيم نفسها و بالجماليات و الموسيقى نفسها التي للشعر الفصيح أو الأدب الرسمي كما يحلو للبعض أن يقول .
من هذا المنطلق يأتي هذا الاجتهاد النقدي من وحي ديوان ” واحد ” للأستاذ محمد الطنوبي و هو أشعار بالعامية المصرية و التي تغلب فيها لهجة الشمال – الوجه البحري – و إني إذ أعرض لملامح الإبداع في شعر محمد الطنوبي و الشعر مغامرة و النقد مغامرة أخرى و لا شك و لا شك أيضا أن الشعر يأتي أولا و النقد ياتي ليجلو معالم الطريق الإبداعي و على حد تعبير محمد بن سلام الجمحي في طبقات فحول الشعراء صفحة 5 – 7 بتصرف يسير: و للشعر صناعة و ثقافة يعرفها أهل العلم كسائر أصناف العلم و الصناعات و يكتسب الحس النقدي كما ينمو الشاعر بكثرة المدارسة و التداول , وقائل قائل لخلف : إذا سمعت أنا بالشعر أستحسنه فما أبالي ما قلت أنت فيه و أصحابك قال : إذا أخذت درهما فاستحسنته , فقال لك الصراف / الناقد الخبير : إنه ردئ ! فهل ينفعك استحسانك إياه ؟ و في ذلك تعبير عن جدوى النقد و أهميته كشفا للجمال و إشارة لمواطن الخلل كي يهتدي من يأتي بعد و يسير على الدرب الطويل و الصعب – درب الشعر .

IMG_4985
و سينصب حديثنا معك أيها القارئ الكريم حول عدد من النقاط هي :
1- العنوان و الغلاف و علاقتهما بالمتن
2- الموسيقى و الإيقاع
3- قضايا اجتماعية ..دور الفن
4- التناص و ملامح أسلوبية و جمالية
5- لماذا لا نبعث فن الأوبريت و المسرح الغنائي من جديد ؟
هيا بنا نقترب من عالم محمد الطنوبي الإبداعي ..
1- العنوان و الغلاف و علاقتهما بالمتن :
العنوان ( واحد ..!! ) يشي أننا أمام حالة من الوحدة و هي ظاهرة بالفعل في أكثر من نص من نصوص الديوان هذا الديوان كما يشي ضمنيا بأن هذا الشخص واحد أي مجهول و مهمل و مهمش كما نقول في حديثنا الدارج : سين من الناس أو واحد من الناس ..فنحن إذن بصدد الوحدة و التهميش و التجاهل و لكأني بشاعرنا يدفع بهذا الـ ( واحد ) المجهول إلى دائرة الضوء عارضا ملامحه النفسية كي ينتبه الجميع له .
و غلاف الديوان أيضا و هو اختيار موفق جدا عليه صورة رجل واحد يرتدي جلبابا غامق اللون و يمسك بناي و في الصورة ما فيها من إيحاء بالحزن و الوحدة ..
العنوان واحد و الرجل واحد و الناي واحد و قصائد الديوان كلها تقريبا تسعى لكشف هذه الحالة من الوحدة و التهميش و قد أبدع الشاعر في عرض عدد من النماذج البشرية منها المحولجي و عسكري الأم المركزي و غير ذلك مما نجده في قصائد الديوان ..
يحمد للشاعر أن جاء عنوانه و غلاف ديوانه و قصائده لتصب جميعها في التيار نفسه و لتؤكد القضية التي لم يتحول عنها الشاعر عبر صفحات الديوان .
و تجدر بنا الإشارة إلى إهداء الديوان الذي جاء بارعا و معبرا عن وعي الكاتب بأهمية و ضرورة الفكر و المعرفة في إنتاج الإبداع عبر خطوات محددة إذ يقول :
إلى كل من .. و كل ما ..
علمني كيف يتبلور الفكر
فينسج من الكلمات شعرا

2- الموسيقى و الإيقاع :
في الديوان يتبدى بشكل حاسم كيف ان الوزن و الإيقاع الموسيقي العروضي المنتظم و القافية لهما دور مهم في إنتاج جمالية الشعر و لعلي أتذكر قول إدجار آلان بو الذي عرف فيه الشعر بانه خلق الجمال الموزون و لعلي أتذكر قول الدكتور محمد مصطفى أبو شوارب في ديوانية الشعر العربي بمكتبة الإسكندرية العام الماضي حينما قال : ” إن سببا مهما في انصراف الناس عن الشعر هو تخلي الشعر عن موسيقاه ” .
و لا شك أن انتظام الإيقاع و وجود القافية و الروي مما يساعد على حفظ الشعر و تداوله لا سيما في النصوص الشفاهية و إلا فكيف وصلت إلينا نصوص الشعر العربي القديم و كيف وصلت إلينا الملاحم الشعبية مثل سيرة أبو زيد الهلالي و ذات الهمة و غير ذلك مالم يكن هناك قدر كبير من المحافظة على سلامة الموسيقى و القافية و قد أسلفت الإشارة إلى قول العقاد المهم بخصوص العروض العربي و عدم صعوبته بل و اتساعه الكبير لكل الأغراض سواء تم النظم بالفصحى أو باللهجات العامية الدارجة و من زعم غير ذلك فإنها دعوته دعوة للهدم لا يحركها سوى حقد أو ضعف و عجز .
و في مقدمة كتاب أغاني الفلاحين في صعيد مصر للأستاذ درويش الأسيوطي يقول سميح شعلان : و الأغنية الشعبية بوصفها واحدة من بنات الأدب الشعبي قادرة كل القدرة على التعبير و التأثير , إذ تتوسل بسلاسة العرض و عمق المعاني ,و إيقاع لحي يطير بها نحو عمق الوجدان و نشوة الاستقبال من خلال المشاركة في الأداء و يقول درويش الأسيوطي : لكل طائفة من طوائف المجتمع غناؤها المتعلق بحرفها اليدوية للفلاحين غناؤهم و للرعاة غناؤهم و لأهل البحر و البحارة و الصيادين غناؤهم .. و لا شك أن محمد الطنوبي يدرك هذا بوعي كبير ظهر في نصوصه كلها و هو ما سنشير إليه لاحقا و يهمنا في نقطتنا الحالية امر الموسيقى ..و لنضرب مثالا من أعمال شاعرنا محمد الطنوبي لنوضح ما ذهبنا إليه …
صفحة 42-43 دورية غفير – من بحر الرجز ( مستفعلن ) و امتزجت معها أحيانا تفعيلة ( متفاعلن) :
أنا الغفير اللي أخد
دورية في طرف البلد
من قد ايه
و الصمت ساكن وحدتي
و انا اللي دايما رحلتي
ملهاش رفيق
وحيد و دبة خطوتي
فوق التراب
فوق الطريق
ملهاش صدى
قدت ابحلق في المدى
و عدلت فوق كتفي السلاح
و صرخت صرخة في البراح
و تتعدد الأوزان في نصوص الديوان فنجد بحر الوافر و الرجز و الرمل و غير ذلك كما نجد دمجا بين أكثر من تفعيلة و بحر و تنويع إيقاعي داخل العمل الواحد من ذلك مثلا نص حاجب محكمة صفحة 32-33 :
في دايرة المحكمة ( مستفعلن فاعلن )
الصوت طنين .. ( مستفعلن )
همهمة ( فاعلن )
حركة بشر .. و الصور ( متفاعلن .. فاعلن )
معروفة أو مبهمة
كله حيبقى سيان
أصل الامور بميزان
و في النص نفسه أيضا :
و سعات كده أتعاجب ( متفاعلن فعلن ) أو ربما ( متفاعلن مفعولن ) حسب طريقة القراءة ..
إذ نجد تفعيلات مستفعلن فاعلن التي تخص بحر البسيط ( الموال ) و نجد معها في النص نفسه تفعيلة متفاعلن الخاصة ببحر الكامل و الشاهد على ذلك قول الشاعر
و كذلك قول الشاعر في نص عريف كتاب ص36 :
الإيمان .. و الفكر زان ..
النفس و الروح اتزان
و تقوى تقدر ع الزمان
و هادينا
مهيمن سبب الأسباب
حيث تتعدد التفعيلات كذلك .. و السؤال هل هذا التعدد التفعيلي داخل النص الواحد يعد عيبا أم أنها حرية التجريب و التي قد تنتج مزيدا من الجمال ؟!
3- القضايا الاجتماعية .. دور الفن :
الأمر الذي لا شك فيه هو انحياز شاعرنا إلى المهمشين من أبناء وطننا و عليه فإننا بإزاء قضايا الفقر و الكبت السياسي و البلطجة و الحيرة و صراع الخير و الشر و الرضا بالمقسوم في مقابل السخط و لدى محمد الطنوبي إحساس مفعم بانتصار الخير في النهاية كل هذه القضايا و غيرها معروضة في إطار من الشعر الجميل و ليس وعظا مباشرا و غن لم تخل أحيانا من خطابية و علو في النبرة مثل قوله في صفحة 17 :
و إيه يجدي ؟
لو الخير ضاع
لو الخير مات
حداد .. حيغير الأوضاع
و ربما تبرير ذلك عندي هو الحالة الوجدانية المفعمة بالحيرة و التي تعتري صاحب الحالة التي تعالجها القصيدة .
و الحس الشعبي لدى شاعرنا واضح و بارز بشدة حتى في ألفاظ و مصطلحات كل حرفة أو مهنة ( و قد أشرت فيما سبق لقول درويش الأسيوطي المهم في هذا السياق ) تعرض لها في الديوان و كذلك الحس الشعبي في عرضه لمشاهد حياتية معتادة لدى الكثيرين لا سيما في بيئاتنا الشعبية التي يختلط فيها الدين مع التقاليد و الأعراف و الخرافات و من ذلك بيئة المولد التي تأتي في نص ” عريف كتاب ” إذ يقول في صفحة 38 :
و لما الناس بتوفي ندور
فتة و لحمة في الختمة
و دعوتنا سبوع و طهور
برقوة تنجي م المستور
و نفحة للعريس بحجاب ..
يفك الربط ..
و يفادي من المحظور
النصوص في مجموعها تعبير عن وجدان جمعي بكل ما يعتريه من هموم و أحزان و أحلام و آمال و أوهام و تتخطى الوجدان الجمعي لمصر إلى الوجدان الجمعي للأمة حينما يستدعي من التاريخ أحداثا عظيمة و إسقاطات متعددة ذات مغزى مهم و كأني به يبكتنا كي نفيق من غفوتنا لاسترجاع ما كان من ماض مزهر .
و تؤكد العديد من النصوص على وعي الكاتب السياسي فهو يستخدم لغة الإسقاط و التهكم المر يقول في صفحة 72:
المهم إن السلام هوه الخيار
و الخيار هوه القرار
لو مخرط سلطة
يبقى جار
او مخلل ويا شطة
يبقى نار

و يقول في صفحة 44 و صفحة 45 :
راديو بيغني السلام
مدد .. مدد
شدي حيلك يا بلد
و يذكر الشهداء و الأقصى الجريح و الراديو ما زال متحدثا عن السلام و يقول بعدها في رنة حزينة :
طبع العلاقات و نام …
فلكأني به يضعنا أمام مفارقة صاخبة قائمة على عرض الشئ و نقيضه و كأن السلام و العار تبادلا المواقع في صدمة حادة لوعينا عسانا نفيق !
و نقطة أخرى أراها جديرة بالتسجيل فيما يخص نص بلطجي هي أن هذا النص يبحث عن أسباب الانحراف و الكشف عنها من أجل تجنب إنتاج المزيد من البلطجية و المنحرفين و لكني أرى أن هناك تعاطفا مع البلطجي و هو مجرم و لعل هذا يعد تبريرا للانحراف و هكذا يزعم كل منحرف رغم أن هناك من يمرون بظروف قاسية و لا ينحرفون ! و لا شك أن للانحراف و الإجرام له عوامل و محركات عديدة منها النفسي و الاجتماعي و البيئي و غير ذلك ..
و في نص محولجي كنت أرى أن نهاية النص هي قول الشاعر :
و انا و الوقت و المسافات
صحاب دايما
صحاب حتما
قضيب مربوط
و ساعة حيط
و سكة حديد
و كانت هذه الخاتمة ستحقق الزمن الدائريو هو التقنية المتعارف عليها في القصة و الرواية بما له من جمالية و دلالة مهمة و لكن شاعرنا آثر أن يضع في النص المزيد من القضايا فنجده يقول في خطابية بدرجة ما :
نشاها بناها بالسخرة
ولد شاحب
بياخد قوته و يفوته
و حاله بليد
و نفسه يحول المعنى
لنبع الخير
و يسري في روحي و ف روحه
فؤاد الطير
و لا بإشارات و لا غيره بنتحول
و دي الدنيا
فإني أرى أن هذا الجزء من النص زائد عن الحاجة بقدر ما و إن لم يخل النص كاملا من الجمال و الفنية ..
4- التناص و ملامح أسلوبية و جمالية :
يعتمد شاعرنا كثيرا على التناص بمستويات متعددة منها تضمين جزء من نص آخر في خلال النص من أجل دعم الحالة الشعورية للقصيدة و إنتاج دلالتها الأدبية .. و من أمثلة ذلك التناص مع المثل الشعبي و مع أحداث التاريخ التي يحيلنا عليها ذكرها هكذا مجردة فما بالك لو جاء ذكرها في نص أدبي من ذلك مثلا بدر و حطين حيث يقول في صفحة 46 :
حطين ..
و بدر ..
و كام شهيد
و طفل ف عنيه
البراءة
و الجراءة
و يتناص مع الأسطورة الشعبية و يستدعي شخصيات أبو زيد الهلالي و عنتر ( صفحة 90)
و يتناص مع المثل الشعبي أو يضمّنه قصيدته في صفحة 53 مثلا يقول :
الدست لو مليان
يكفي يا دوب مغرفة
و لأمر الأمثال الشعبية شأن كبير فهي الحاوية لخلاصة الحكمة و التجارب التي مرت بمجتمع ما و لأستاذنا السيد الخشاب ديوان عنوانه ” على رأي المثل” يتكئ فيه اتكاء أساسيا على الأمثال الشعبية و التي يصوغ من كل منها نصا شعريا يحفل بالدراما و الحركة و التصوير الشعري البسيط في عمق و المحبب للنفس في آن واحد ..
يقول السيد محمد الخشاب – رحمه الله :
باين في وسط الناس
واخد له قول كام صفه
و ف كل شيء مظبوط
مواضيع و متألفه
عملوا له يوم قاعدة
قالوا ضروري يبان
اللي في آخر الدست
تجيبه المغرفة!
كما نجد شاعرنا في أكثر من موضع يقتبس من القرآن الكريم في صفحة 37 :
فرح و معاه غنا و مزمار
و يتكور .. في ليلنا نهار
و فيها تأثر بالقرآن لاسيما سورة الزمر في قوله تعالى :” خلق السموات و الأرض بالحق يكور الليل على النهار و يكور النهار على الليل ” آية 5
و قوله في صفحة 39 :
كفيف ..لابس عمامة فصيح
بيشرح سورة الرحمن
من بعد ما رفع السما
و وضع الميزان
و ف سورة تانية فيه قسم ..
للمولى بسطور القلم
و فيها تأثر بالقرآن – و هذا ينم على ثقافة شاعرنا الخصبة – في سورة الرحمن و سورة القلم و غيرهما ..
و من نماذج الاقتباس الجيد جدا من القرآن الكريم قول شاعرنا في صفحة 89 :
تبات تحلب ليالي عجاف
و هذه صورة شعرية بارعة جدا تقوم على الاستعارة و عدم التضمين المباشر و الصريح لآيات القرآن – من سورة يوسف – بل صيغت صياغة فنية بديعة ..
و في لغته أيضا مزج بين الفصحى و العامية في مثل قوله في صفحة 57 :
منين ما بعوز باقف
و أسير
لكني أسير
غنم و حمير
و لقمة عيش
الجناس التام بين لفظتي أسير بمعنى المشي و السير و بين أسير من الأسر و القيد أحدث حالة من عمق المعنى مع الجرس الموسيقي المميز و لكأني بالشاعر حريص على إحداث و اعتماد هذا الجرس في أعماله كلها .و من ذلك أيضا المزج بين الفصحى و العامية مع اعتماده على التضمين من نصوص أخرى في صفحة 51 :
و أهو ضاق علي الزاد
و صبحت م العاطلين
لما النحاس اندثر
” أنا راح زماني هدر ”
و انا اللي كنت النهار
لا أنعس .. و لا أقيّل
رقاص ف وسط النار

و للصورة الشعرية عند شاعرنا رغم ما فيهل من بساطة جمال أخاذ و عمق كبير من ذلك صورة ضلوع المراكبي و ضلوع المركب أو القارب في صفحة 82:
و الضلوع مكشوفة دايما
زيها ضلوع القوارب
و من خصائصه الأسلوبية استخدام السؤال و يكاد لا يخلو نص من تساؤل ما بشكل ينم عن حيرة الشخصية التي يتناولها النص لدرجة ان الشخصية / مبيض النحاس تسأل نفسها في صفحة 53 :
دي إجابة و لا سؤال
و لا كلام فلسفة
فكأن الحيرة و التخبط و ضغط الفقر و تبدل معادن الناس جعلته لا يدري و يتخبط بين الإجابة و السؤال و الفلسفة التي يعني بها الناس / الشعبيون الكلام الفارغ الذي لا طائل من ورائه سوى وجع الرأس ! هذه الحيرة التي تجسدها حركة البندول في بعض مواطن الديوان منها مثلا صفحة 97 :
و حتى الهمة و الجتة
ساعات بتمل ..
أو تغل
من الحركة كما البندول
لو الدنيا كانت سهلة
لكان فرع الشجر معدول
و هنا يستخدم محمد الطنوبي أسلوب الشرط كما يستخدمه كثيرا و فيه ما فيه من رؤية منطقية عقلية للأمور .. لو كان كذا لكان كذا من ذلك / اعتمادا على تلازمية و حتمية المقدمات و الأسباب و النتائج و ربما يعبر عن استحالة التغير و اليأس منه يقول في صفحة 50 :
لو كنت انا من دول ..
ماكنش ده حالي ….
و فيها خليط من اليأس و الرضا
و يقول في النص نفسه في صفحة 51 :
و مهما سعيك زاد ..
الرزق زي القدر
مقسوم ..و بالموازين
و فيها تسليم بحكم الأقدار و حتميتها
و يقول في صفحة 70 :
يا سلام لو أبقى عمدة
كنت ألغي القطن خالص
كنت اخلي
كل يوم زي النهاردة
يوم خميس
هو ده يوم الطبيخ
و هذا كثير في الديوان كثرة لافتة ..
5- لماذا لا نبعث فن الأوبريت و المسرح الغنائي من جديد ؟ :
و الأوبريت كما جاء على موقع ويكيبيديا :
الأوبريت نوع من المسرحيات الغنائية كان محبوباً في الفترة بين أواسط القرن التاسع عشر حتى العشرينيات من القرن العشرين الميلادي. تطور الأوبريت من الأوبرا الهزلية الفرنسية ولكنه يختلف عنها في أنه يحتوي على حوار كلامي بدلاً من الحوار الغنائي، وعلى أغاني بدلاً من ألحان. وغالباً ما تكون مقدمة الأوبريت خليطاً من أغان منتزعة من العرض وليست شيئاً مؤلفاً مستقلاً كما هو الحال في الأوبرا.
الغرض من الأوبريت هو الترفيه وإدخال السرور على النفوس وليس إثارة العواطف القوية أو الكشف عن قضايا مهمة أو مناقشة قضية ذهنية أو جدلية. وفي كثير من الأوبريتات نجد أن عقدة القصة إما عاطفية رومانسية أو ساخرة. وفي معظم الحالات تتضمن نوعاً من الارتباك حول أخطاء غير مقصودة، كما تنتهي بنهاية سعيدة كثيراً ما تعكس شيئاً من المغزى الأخلاقي.
في الأوبريت تُظهر الموسيقى ألحاناً مباشرة من غير تعقيدات لحنية، وفيها إيقاع قوي. وهناك الأوبريت الذي يحتوي على رقصات وغيرها من التي تقوم على أساس رقصة الفالس والكورال “الغناء الجماعي”.
في العالم العربي انتشر فن الأوبريت نقلاً عن أوروبا ولكن بمزيد من التعريب ليلائم الفكر الشرقي والمتلقي في الشرق. وقد بدأ هذا اللون من المسرح الغنائي في مصر في الثلث الأول من القرن العشرين الميلادي على يد الملحن داود حسني، ثم سرعان ما انتقل إلى بلدان عربية أخرى مثل لبنان وسورية وكان هناك تأثير كبير لزيارة الفرق المسرحية الغنائية المصرية للبلدان العربية.

و شاعرنا لديه قدرة واضحة على رسم معالم الشخصية و إجراء حوار و صراع درامي و لا أشك لحظة أنه لو حاول كتابة نص مسرحي أو مسرحية غنائية لتمكن من ذلك بامتياز و لعلي أتذكر الآن على سبيل المثال لا الحصر أوبريت الدندورمة (كلمـات : محمد متولي ألحــان : عزت الجاهلي غنــــاء : إبراهيم حموده و سعاد مكاوي و بديعة صادق إخراج : محمد محمود شعبان (بابا شارو( و أوبريتات و لوحات الزجال محمد إبراهيم سالم و التي مُثلت على خشبة المسرح و كذلك أوبريت الشاعر و الزجال القدير محمد طعيمة ” النيل حابي ” و الذي مُثل أيضا و لاقى استحسانا كبير وقت عرضه ..
و تدور الأوبريتات على ألسنة شخصيات من الجماعة الشعبية و المهمشين ليدفعهم إلى صدارة المشهد و يكشف عن آلامهم و أحلامهم بشكل فيه رقي و بعد عن الابتذال الذي نراه في السينما و أعمال الدراما التليفزيونية و الأغاني الهابطة القيمة الجمالية في أيامنا للأسف الشديد فنحن بحاجة إلى المبدعين المخلصين و أصحاب القضية ليرسموا لنا معالم طريق مضيء إلى مستقبل أفضل و أكثر جمالا و إنسانية.
و مما يلفت النظر وجود تكنيك الفوتومونتاج و السيناريو السينمائي في نص حاجب المحكمة و لكأني بالكاميرا تنتقل بين وشوش مختلفة في سرعة تختلط فيها أصوات الهمهمة مع صوت الحاجب و القاضي و المداولات و الصراعات و السرحان في الهموم كل ذلك في حركة سريعة و يظهر لدى الطنوبي القدرة على رسم المعالم الجثمانية و ما لها من أثر نفسي و سلوكي و من ذلك نص العشماوي رجل تنفيذ الإعدام الرهيب المرعب إذ يقول الشاعر :
مغطي الصمت بالشارب
كثيف جدا
بقى لي زمان
و بزيادة
ملامحي حادة يا سادة
لأني ف شغلتي شارب
ملوحة قسوة التنفيذ

IMG_4984

و قدرة كبيرة على التنفل بين شخصيات متعددة خلال نص واحد مثل نص القهوجي فلو مُثل هذا النص لخرج إلينا فيلم قصير يحتوي الكثير من القضايا و الملامح و الانفعالات التي يرصدها صبي القهوجي بحرفية عالية و خفة و رشاقة نغبطه عليها فلكل زبون في القهوة قصته و ملامحه و القهوجي يعرف خبايا زبائنه معرفة الخبير .

إلى هنا تنتهي- و إن لم تنته في الحقيقة – رحلتنا الممتعة مع ديوان واحد لشاعر كفر الزيات الأستاذ محمد الطنوبي ..
*ناقد أدبي
الإسكندرية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى