علوم الفضاء

“الفضاء السعودي”.. تحولات الاقتصاد والتصدير المعرفي برؤية وطنية

الرياض – واس:
تحولات كبرى تشهدها المملكة العربية السعودية في نهجها نحو اقتصاد معرفي قائم على الابتكار، يبرز قطاع الفضاء فيه كأحد أهم ركائز رؤية المملكة 2030، إذ لم يعد مجرد مجال علمي أو تقني، بل بات محركًا إستراتيجيًا للتنمية الاقتصادية، وجسرًا نحو المستقبل الذي تسعى المملكة إلى بنائه عبر الاستثمار في الكفاءات الوطنية، وتطوير البنية التحتية الفضائية، وتعزيز الشراكات الدولية.
ويرتبط قطاع الفضاء ارتباطًا وثيقًا في العديد من المجالات، وأضحى عاملًا مؤثرًا في مسيرة التطور والنمو، فكان له تأثير في الاقتصاد الوطني من خلال تنوع الاستثمارات المحلية والشراكات الدولية في المجال، فضلًا عن تأثيره في قطاعات حيوية كالبيئة والأرض والاستدامة، وكذلك التعليم والصحة وغيره من المجالات الأخرى.
الفضاء في خدمة البشرية
أكد معالي الرئيس التنفيذي لوكالة الفضاء السعودية الدكتور محمد بن سعود التميمي، أن الفضاء أداة حيوية للتنمية البشرية، حيث أسهم في خدمة البشرية بشكل مباشر عبر اختراعات مثل الاتصالات، الملاحة، والمراقبة الأرضية، مشيرًا إلى أن كثيرًا من التقنيات التي نستخدمها اليوم في حياتنا اليومية، هي نتاج مباشر لأبحاث الفضاء.
وأوضح معاليه، أن المرحلة الحالية تشهد تحولًا كبيرًا مع دخول القطاع الخاص في صناعة الفضاء، وهو ما يفتح فرصًا جديدة للدول وللأسواق الناشئة في هذا القطاع، مؤكدًا أن المملكة تعيش مرحلة تحوّل ضخمة، يُمثّل قطاع الفضاء فيها جزءًا رئيسًا من رؤيتها الطموحة، خاصة وأن المملكة لا تسعى فقط للمشاركة، بل إلى الريادة عبر بناء منظومة فضائية متكاملة تشمل التشريعات، الاستثمار، والابتكار.
وأشار الدكتور التميمي، إلى إسهام قطاع الفضاء في تعزيز الهوية الوطنية لدى الشباب، لا سيما أنهم المحرك الأساسي لهذا القطاع، مبينًا أن الاستثمار فيهم هو استثمار في المستقبل، وأن المملكة لا تبني قطاع فضاء لأجل التقنية فقط، بل لأجل الإنسان السعودي الذي سيكون جزءًا من صناعة المستقبل.
البداية .. أعين السعوديين نحو المدار
بدأت المملكة برامجها الفضائية الوطنية من خلال الجامعات ومراكز الأبحاث في هيئات الفضاء بتصميم وتصنيع أقمار صناعية صغيرة تنطلق من خلالها للدخول إلى عالم صناعة الفضاء من خلال وضعها خطط مستقبلية تستهدف أقمار الاتصالات، وأقمار الاستشعار عن بعد، وأقمار الأرصاد الجوية، ومنصات مراقبة البيئة والمياه والزراعة، والأنظمة الداعمة للمدن الذكية والمركبات ذاتية القيادة، الأمر الذي يُؤسس لصناعات محلية مغذية في مجال الإلكترونيات الدقيقة، والبرمجيات الفضائية، والمواد المتقدمة.
ورسخت المملكة مكانتها في مجال الفضاء عبر مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، التي أطلقت بين عامي 2018 و 2000 ما مجموعه 15 قمرًا صناعيًا سعوديًا، وتميّزت هذه المرحلة بتعاون علمي دولي، حيث أجرت “كاكست” تجارب علمية مع وكالة “ناسا” وجامعة “ستانفورد” على متن القمر الصناعي “سعودي سات 4” عام 2014، كما شاركت في مهمة “تشانغ إي 4” الصينية عام 2018، وهي مهمة فريدة لاستكشاف الجانب غير المرئي من القمر، مما يعكس الثقة الدولية في القدرات السعودية.
وسخرت الجامعات والمراكز البحثية جهودها لإطلاق برامج الأقمار الصناعية التعليمية والبحثية منذ مطلع العقد الماضي، تلتها خطوات سريعة وصلت إلى تأسيس وكالة الفضاء السعودية عام 2018، وفي العاشر من شهر نوفمبر 2022 صدر قرار مجلس الوزراء برقم 253 بنقل الاختصاصات التنظيمية في قطاع الفضاء إلى هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية، وذلك لأهمية التكامل بين عالم الاتصالات والفضاء والتقنية، ثم دخول المرأة للمجال عند إطلاق أول رائدة فضاء سعودية عام 2023، وإنشاء مجموعة Neo Space Group (NSG) في 2024، وفي أغسطس من العام 2025 تم إطلاق منصة الرصد الفضائي للأرض (EO)، مما يعكس مسار النمو المذهل الذي تشهده المملكة في سوق بيانات الرصد الفضائي؛ بهدف تلبية الطلب المتنامي لحلول الرصد الفضائي للأرض والبيانات الفضائية المتقدمة، وتقديم مجموعة واسعة من خيارات بيانات الرصد الفضائي للأرض وصور الأقمار الصناعية عالية الدقة.
قرارات حكومية داعمة
وتعزيزًا لهذه الجهود واستجابة للأهمية الإستراتيجية لقطاع الفضاء كمحرك أساسي للتطور؛ أصدر مجلس الوزراء عدة قرارات، منها إنشاء “المجلس الأعلى للفضاء” برئاسة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز آل سعود ولي العهد رئيس مجلس الوزراء، ويُعنى باعتماد السياسات والإستراتيجيات لبرامج الفضاء، والموافقة على الخطط ومراقبة تنفيذ الإستراتيجية، وتحقيق التوافق مع مختلف القطاعات والاحتياجات الوطنية، كما قرر المجلس أيضًا تعديل اسم “هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات” لتكون “هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية”، التي بدورها تعمل على ضمان شفافية المنافسة العادلة، وتمكين منظومة الفضاء من تحقيق الأهداف الإستراتيجية، وتعزيز التعاون مع الجهات الحكومية والقطاعات الأخرى بما يدعم نمو وتطور القطاع، كما صدر عن المجلس كذلك تحويل الهيئة السعودية للفضاء إلى “وكالة الفضاء السعودية”، والموافقة على تنظيمها، وهي تقوم بتنفيذ وتطوير وتوطين علوم وتقنيات الفضاء، ودعم الاستخدامات السلمية لصناعات الفضاء، وتبنّي الخبرات والمعارف المتصلة بالعلوم وبحوث الفضاء.
وتسعى وكالة الفضاء السعودية لأن تكون دافعًا للنمو محليًا وعالميًا من خلال الابتكار واستكشاف الفضاء، وتهدف إلى تنمية القدرات الوطنية، ودعم الابتكار والاستثمار في علوم الفضاء، بالتعاون مع المنظومة الوطنية والدولية، من خلال أهدافها الإستراتيجية الرامية إلى تعزيز مكانة المملكة مركزًا إقليميًا وعالميًا في علوم الفضاء، وتوطين تقنيات الفضاء وتطويرها، ودعم الاستخدام السلمي لصناعة الفضاء، وتطبيق أفضل الممارسات العالمية في الأقمار الصناعية والبعثات الاستكشافية، وأخيرًا تبنّي المعارف والبحوث التطبيقية للأغراض المدنية.
وتنتقل المملكة اليوم تدريجيًّا من مرحلة “المشاركة”، إلى مرحلة “الريادة والتصدير المعرفي”، وذلك بعدما خاضت رحلتها في هذا المجال، من خلال دخولها في شراكات فضائية دولية مع وكالات ومراكز أبحاث حول العالم، إضافة إلى إطلاق برامج وطنية لتدريب المهندسين والطلاب في تقنيات الأقمار الصناعية.
ومن المتوقع وفقًا لهذه المعطيات، أن تصبح المملكة مركزًا إقليميًا لصناعة الأقمار الصناعية الصغيرة، وأن تطور منصات إطلاق محلية مستقبلًا، كما يمكنها أن تدخل في تصنيع أقمار متقدمة للاتصالات والإنترنت الفضائي، وأن تصدّر تقنيات فضائية لدول المنطقة، بل يمكنها أيضًا أن تقود أبحاثًا عالمية في علوم الفضاء والذكاء الاصطناعي الفضائي، وأن تتحول إلى مركز جذب للشركات العالمية الناشئة في تقنيات الفضاء.
الفضاء عالميًا.. نمو متسارع
الأرقام المعلنة في قطاع الفضاء، تؤكد أن المملكة تنمو أسرع من المتوسط العالمي، لتصبح مركزًا إقليميًا للابتكار الفضائي، في حين سيشكّل توطين صناعة الأقمار الصغيرة وبناء ميناء فضائي سعودي، نقلة نوعية في ترسيخ الهوية الوطنية في مدار عالمي جديد، ولذا جاءت الاتفاقيات والشراكات الموقّعة بين المملكة ودول العالم في قطاع الفضاء لتُسهم في النمو السريع الذي يشهده القطاع حول العالم.
فقد بلغ حجم الاقتصاد الفضائي العالمي وفقًا لتقرير سوق الفضاء السعودي الصادر عن هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية في أبريل 2025، نحو (687) مليار دولار في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى (1.8) تريليون دولار بحلول 2035 بمعدل نمو سنوي مركب (9%)، بينما سجل السوق الفضائي العالمي حولي (176) مليار دولار في 2024، ويتوقع أن يرتفع إلى (377) مليار دولار في 2035 بمعدل نمو (7%)، ومن أبرز القطاعات المحركة للنمو، شكّلت الملاحة الفضائية الحجم الأكبر، من (96) مليار دولار في 2024 إلى (181) مليار دولار في 2035، ثم الاتصالات الفضائية – وتُعد الأسرع نموًا -، من (39) مليار دولار في 2024 إلى (143) مليار دولار في 2035، أما المراقبة الأرضية من (6) مليارات دولار في 2024 إلى (14) مليار دولار في 2035.
قطاع الفضاء السعودي ليس مجرد صناعة جديدة، بل هو امتداد لرؤية المملكة 2030 التي وضعت الإنسان في قلب التنمية، في ظل التمكين الذي يشهده الشباب اليوم في مختلف القطاعات، فهو وجه العالم الذي ينبض بالحياة والإبداع، وهو سر البشرية المستكشف في المستقبل القادم.
الفضاء في أرقام المملكة.. رؤية طموحة
يشهد قطاع الفضاء السعودي نموًا متسارعًا بفضل المبادرات الحكومية القوية، والاستثمارات الإستراتيجية، والالتزام المتزايد بالابتكار، فقد بلغ حجم الاقتصاد الفضائي السعودي حوالي (8.7) مليارات دولار في 2024، ويتوقع أن يصل إلى (31.6) مليار دولار في 2035 بمعدل نمو سنوي مركب (12%)، وهو أعلى من المتوسط العالمي، كما أن السوق الفضائي المحلي سجّل (1.9) مليار دولار في 2024، ومن المتوقع أن يرتفع إلى (5.6) مليارات دولار في 2035 بمعدل نمو (10%)، وذلك وفق ما جاء في تقرير سوق الفضاء السعودي الصادر في أبريل 2025.
ويشهد القطاع العلوي (Upstream) – الذي يشمل التصنيع والإطلاق والبنية الأرضية -، وفقًا للتقرير، توسعًا ملحوظًا مع التحوّل نحو الأقمار الصغيرة، وبلغ متوسط القيمة السنوية (2025-2035) في التصنيع (340) مليون دولار سنويًا، في حين بلغ الإطلاق نحو (128) مليون دولار سنويًا، ووصلت البنية الأرضية (32) مليون دولار سنويًا، وهذا النمو مدفوع بالابتكار التكنولوجي والسياسات الحكومية التي تدعم تطوير القدرات المحلية، مما يعزز الكفاءة ويخفض التكاليف.
كما عدّ التقرير القطاع السفلي (Downstream) المحرك الأساسي لنمو الفضاء في المملكة، حيث يقود الطلب على الخدمات الرقمية واللوجستية، وفي متوسط القيمة السنوية (2025-2035) بلغ حجم الاتصالات الفضائية نحو (1.8) مليار دولار سنويًا، وأما الملاحة الفضائية فبلغت (1.5) مليار دولار سنويًا، والمراقبة الأرضية بلغت (208) ملايين دولار سنويًا، وهذه القطاعات تعزز التحول الرقمي في المملكة، وتدعم تطبيقات مثل النقل الذكي، إدارة البيانات، والخدمات اللوجستية.
وفي هذا السياق قال معالي رئيس وكالة الفضاء السعودية الدكتور محمد التميمي، على هامش منتدى دافوس الاقتصادي: إن حجم اقتصاد الفضاء في نهاية 2024، وفق التقديرات يبلغ تقريبًا (700) مليار دولار، متوقعًا نموّه بنسبة تراكمية سنوية أكثر من (11%)، وهذه نسبة تاريخية من الآن وحتى 10 سنوات مقبلة، ليصل إلى (2) تريليون دولار في عام 2035، وذلك وفق تقديرات منتدى الاقتصاد العالمي.
وترتبط هذه الأرقام برؤية المملكة 2030 من خلال تنويع الاقتصاد في قطاع الفضاء السعودي الذي ينمو أسرع من المتوسط العالمي، ويخلق وظائف عالية المهارة في الهندسة، البيانات، والذكاء الاصطناعي، إضافة إلى الأمن الوطني والسيادة التقنية وذلك عبر تطوير قدرات محلية في الأقمار الصناعية، وتعزيز خدمات الملاحة والاتصالات الوطنية، فضلًا عن التحول الرقمي بالاعتماد على EO وSatCom لدعم المدن الذكية مثل (NEOM) والزراعة الذكية، وإدارة الكوارث، والنقل والخدمات اللوجستية، وكذلك من خلال تمكين القطاع الخاص، عبر دخول شركات سعودية جديدة مثل NSG وSARsatX، ودعم الشركات الناشئة عبر صناديق استثمارية.
رؤية المملكة 2030 والفضاء
جعلت رؤية المملكة 2030 من الفضاء، مجالًا للتنمية والابتكار، وفتحت الباب أمام جيل جديد من الكفاءات الوطنية ليكونوا روادًا في استكشاف المستقبل، ومن خلال هذه الأرقام الطموحة والاستثمارات الإستراتيجية، تسير المملكة العربية السعودية بخطى واثقة لتكون لاعبًا رئيسيًا في الاقتصاد الفضائي العالمي.
وعزّزت المملكة في ظل رؤيتها من أنشطة البحث والتطوير والابتكار في مجال الفضاء، ورسخت مكانتها في مجال الفضاء على الساحة العالمية، في إطار سعيها لإلهام الأجيال في علوم الفضاء ولصناعة مستقبل قطاع الفضاء في المملكة، فهي ليست مجرد صناعة جديدة، بل جزءًا من مشروع وطني شامل، يهدف إلى تنويع الاقتصاد بعيدًا عن الاعتماد على النفط، وتمكين الكفاءات الوطنية لتكون في طليعة الابتكار الفضائي، وتعزيز مكانة المملكة عالميًا مركزًا إقليميًا للفضاء والتقنيات المتقدمة، ودعم الاستدامة والتنمية عبر تطبيقات المراقبة الأرضية في الزراعة والبيئة والخدمات الاجتماعية.
ووفقًا لخبراء القطاع، تشهد المملكة نهضةً نوعيةً في الاستثمار بقطاع الفضاء، جعلته أحد أعمدة رؤية المملكة 2030، حيث تتسارع الخطوات لتوظيف التقنيات الفضائية في خدمة التنمية المستدامة، وتنويع الاقتصاد، وتعزيز مكانة المملكة قوةً إقليميةً في هذا المجال الحيوي.
جهود المملكة في قطاع الفضاء
تسعى المملكة إلى تطوير أنظمة وتقنيات الأقمار الصناعية، ورصد وتتبع الأجرام السماوية، والحطام الفضائي، وتنفيذ المهام الاستكشافية المأهولة، وإعداد ودعم الدراسات والبحوث الفضائية، إضافة إلى تنمية قدرات الكوادر الوطنية، والتعاون الدولي والإقليمي، وتمثيل المملكة في الفعاليات العالمية، وعقد الاتفاقيات ومذكرات التفاهم.
ومن الأمثلة البارزة على أبحاث الجاذبية الصغرى التي قامت بها المملكة، يأتي الفضول العلمي وتكمن أهميته في دراسة ظواهر لا يمكن محاكاتها على الأرض، والفيزياء الأساسية، وتنطلق أهميتها من فهم ديناميكية السوائل ونقل الحرارة، كذلك الدراسات البيولوجية وتتمثل أهميتها في دراسة تأثير انخفاض الجاذبية في الإنسان والنباتات، أما طب الفضاء فتتمثّل أهميته في تطوير إجراءات وقائية لسلامة الرواد.
ولعلم الفضاء وأبحاثه، أثر وطني وإقليمي كبير، حيث يعمل على تعزيز الهوية الوطنية عبر مشاركة الشباب والطلاب في تجارب فضائية مباشرة، وتمكين المرأة من خلال مشاركة أول رائدة فضاء سعودية، والريادة الإقليمية عبر مبادرات مثل “مداك” التي تستهدف العالم العربي، بالإضافة إلى التكامل الدولي من خلال الشراكات مع وكالات الفضاء العالمية.
وفي القطاع غير الربحي وتعزيزًا للابتكار وتنمية الأثر في منظومة الفضاء، حصلت جمعية “فلك” على جائزة مدار الأثر 2025 عن مبادرة برنامج فلك الإثرائي، ضمن جهود وكالة الفضاء السعودية لتمكين القطاع غير الربحي في منظومة الفضاء.
وأعلنت الوكالة ضمن جهودها القادمة عن مؤتمر الحطام الفضائي 2026، (SDC 2026) تحت عنوان “حوار عالمي وفرص اقتصادية وتقنية جديدة” خلال الفترة من 26–27 يناير 2026 في مدينة الرياض؛ بهدف مواصلة النقاشات المهمة والرؤى الإستراتيجية التي خرج بها المؤتمر في نسخته الأولى، بما يعزز الجهود الدولية الرامية إلى معالجة التحديات المتزايدة المرتبطة بالحطام الفضائي، وقد كانت المملكة هي أولى دول المبادرة في الحد من الحطام الفضائي وذلك عبر مؤتمرها الذي بدأ عام 2024م.
ولم تغفل المملكة عن دعم روادها ببرامج داعمة ومنها برنامج المملكة لرواد الفضاء وهو مبادرة طموحة ورائدة تم إطلاقها؛ بهدف تعزيز مكانة المملكة في مجال الفضاء وتطوير قدراتها البشرية والصناعية في هذا المجال، وتحفيز الابتكار والتميز والتكامل بين مختلف الجهات المعنية في قطاعات الفضاء الوطنية والدولية، وتأهيل كوادر سعودية متمرسة لخوض رحلات فضائية طويلة وقصيرة المدى والمشاركة في التجارب العلمية والأبحاث الدولية والمهام المستقبلية المتعلقة بالفضاء.
وأطلقت وكالة الفضاء السعودية برنامجًا لتأهيل كوادر وطنية للمشاركة في الرحلات الفضائية والأبحاث الدولية، فكانت المهمة الأولى (SSA-HSF1 -مايو 2023) التي شملت إرسال أول رائدة فضاء سعودية وعربية هي ريانة برناوي، بمشاركة رائد الفضاء السعودي علي القرني، اللذين أجريا (11) تجربة علمية و(3) تجارب تعليمية بمشاركة (12) ألف طالب في (47) موقعًا بالمملكة، وإرسالهما إلى محطة الفضاء الدولية (ISS) في مهمة أكسيوم-2 في عام 2023.
ومن التجارب العلمية البارزة التي أجريت من الفضاء، الانتقال الحراري.. دراسة سلوك الحرارة بين الأرض والفضاء، التيلومير.. قياس تأثير الفضاء على الحمض النووي، الطائرات الورقية الفضائية.. فهم الديناميكا الهوائية في الجاذبية الصغرى، تخطيط أمواج الدماغ.. قياس النشاط الكهربائي وتأثيره في الإدراك، انتشار الألوان السائلة.. دراسة سلوك السوائل في الفضاء، الخلايا المناعية.. فهم استجابة الخلايا للالتهابات، الاستمطار الصناعي.. اختبار إمكانية الاستمطار على القمر والمريخ، الإرواء الدماغي، وقياس الضغط داخل الجمجمة.. قياسات متقدمة باستخدام أجهزة حديثة، وقياس قطر غلاف العصب البصري، المؤشرات الحيوية في الدم.. تقييم صحة الدماغ والجهاز العصبي.
وأطلقت هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية ووكالة الفضاء السعودية بالشراكة مع مجموعة نيو للفضاء، منافسة SpaceUp العالمية؛ بهدف تعزيز ريادة أعمال الفضاء، ودعم الشركات المحلية المتخصصة في مجال حلول تقنيات الفضاء، وجذب الشركات الناشئة العالمية والمنشآت الصغيرة والمتوسطة، وتشجيع تبنّي حلول تقنيات الفضاء التي تدعم مختلف القطاعات الحيوية، وتستهدف المنافسة رواد الأعمال والشركات الناشئة والمنشآت الصغيرة والمتوسطة داخل وخارج المملكة، للمنافسة في 6 مسارات لتطوير حلول للتحديات التي تواجهها مختلف القطاعات الحيوية باستخدام تقنيات الفضاء، كما تتيح المنافسة للفائزين الحصول على فرص تعاقدية قرابة 28 مليون دولار أمريكي على مستوى جميع المسارات، إضافة إلى التواصل المباشر مع المستفيد النهائي، وتوطين المنتج التقني، وكذلك الربط مع أصحاب المصلحة لتطبيق المنتج التقني المقترح.
المبادرات الفضائية التعليمية والكفاءات الوطنية
أطلقت المملكة عام 2024 مسابقة “الفضاء مداك” بإشراف رائدة الفضاء ريانة برناوي، بهدف إلهام الشباب العربي في مجالات العلوم والتكنولوجيا والهندسة والفنون والرياضيات، ونتج عنها (2.9) مليون زائر للموقع، و(80) ألف طالب مسجل، و(18) ألف مشاركة كاملة، بالإضافة إلى (10) فائزين من (8) دول عربية.
وأطلقت وكالة الفضاء برامج وطنية لتأهيل الكفاءات، مثل مسابقة “ساري” التي شاركت فيها أكثر من (42) جامعة سعودية عبر (480) فريقًا طلابيًا لتصميم أقمار صناعية صغيرة، في حين مثّل نجاح إطلاق القمرين الصناعيين السعوديين “أفق” و”روضة سكوب” نقلة نوعية في تمكين الشباب السعودي من المشاركة الفعلية في صناعة الفضاء.
وتهدف برامج مثل “ساري” و”رواد الفضاء” إلى تمكين الشباب السعودي من خوض تجارب تطبيقية في تصميم وتشغيل الأقمار الصناعية، كما أن إطلاق أول رائدة فضاء سعودية عام 2023 شكّل علامة فارقة في مشاركة المرأة السعودية في قطاع الفضاء، خاصة أن الجامعات السعودية أصبحت مراكز بحث وتطوير فضائي، بالشراكة مع الوكالة، لتأهيل جيل يقود مستقبل القطاع.
ومؤخرًا تم إطلاق القمرين الصناعيين السعوديين «روضة سكوب» و«أفق» اللذين صممهما طلاب جامعة أم القرى وجامعة الأمير سلطان ضمن مسابقة «ساري» لبناء وتصميم الأقمار الصناعية الصغيرة، لينطلقا ضمن مهمة دولية إلى الفضاء، ويمثّل هذا الإطلاق ثمرة تعاون وشراكة إستراتيجية مع الجامعات الوطنية، إذ خضع الفريقان الفائزان لسلسلة من الاختبارات التقنية والبيئية والدورات التدريبية بإشراف خبراء ومهندسين من الوكالة وشركائها الدوليين، ما أسهم في تحويل الأفكار الأكاديمية إلى مشاريع فضاء وطنية واقعية.
وخلال شهر ديسمبر 2025 قدمت أكاديمية الفضاء التابعة لوكالة الفضاء السعودية، دورات تدريبية في مختلف القطاعات الفضائية ابتداءً من الطب واختتمتها بندوة استخدام الذكاء الاصطناعي في الفضاء، في رحلة مستمرة نحو المعرفة والبحث العلمي، دعمًا للطلاب والطالبات في مختلف المراحل الجامعية ومختلف الدول العالمية على يد نخبة من المدربين الدوليين والمختصين في قطاع الفضاء.
الاستثمارات والفرص المستقبلية الواعدة في القطاع
وضمن الجهود الدولية المشتركة، وقّعت المملكة العربية السعودية ممثلة بوكالة الفضاء السعودية اتفاقية تنفيذية مع وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) لإطلاق أول قمر صناعي سعودي لدراسة مناخ الفضاء، وذلك ضمن مهمة “أرتميس 2″، في إطار تعزيز التعاون العلمي والتقني في مجالات الفضاء، وتفعيل الاتفاقية الإطارية الموقعة بين حكومتي البلدين في يوليو 2024.
ويُعد قطاع الفضاء من الفرص الواعدة للاستثمار، حيث تتركز العديد من الفرص المستقبلية في فرص قصيرة المدى تتمثّل في خدمات البنية الأرضية، وتحليلات المراقبة الأرضية، وحلول استشعار متعددة، والخدمات متعددة المدارات، فيما تشمل الفرص طويلة المدى، تصنيع الأقمار الصغيرة، وبناء ميناء فضائي سعودي، وتطوير تقنيات الاستشعار المتعدد والتحليلات الفضائية، وتعزيز الوعي الفضائي، استكشاف الفضاء العميق، وتوطين الخدمات اللوجستية الفضائية.
ويشهد القطاع طفرة نوعية في مجال الاستثمار حيث تتسابق الشركات العالمية والمحلية للمساهمة في الفرص الاستثمارية بهذا القطاع الواعد في المملكة، ومنها وفقًا لتقرير هيئة الاتصالات والفضاء والتقنية لعام 2025، استثمار “الجزيرة كابيتال” في شركة Axiom Space بمبلغ قُدّر بـ (350) مليون دولار، كما تستثمر “واعد” التابعة لأرامكو في شركة OQ Technology بمبلغ (13) مليون دولار، بينما تستثمر”SeedFord Partners” في صندوق فضائي سعودي بحوالي (150) مليون دولار، في حين بلغ استثمار مشترك بين نيوم وOneWeb ما قدره (200) مليون دولار.
ولم تكتف المملكة بذلك بل استثمرت في الأقمار الصناعية الصغير (CubeSats) كخطوة أولى نحو بناء صناعة فضائية متكاملة، إلى جانب ابتكاراتها التي تشمل تطوير تقنيات إنترنت الأشياء الفضائي، والمراقبة البيئية، والاتصالات في المناطق النائية.
الحوكمة والتشريعات الفضائية
أطلقت وكالة الفضاء السعودية حزمة التشريعات والسياسات الوطنية لضمان الاستخدام الآمن والمستدام للفضاء، وهذه السياسات تتماشى مع المعايير الدولية وتدعم الابتكار، مع التركيز على حماية البيئة الفضائية من المخاطر مثل الحطام الفضائي، ما يُمثّل إطارًا متكاملًا للحوكمة الفضائية.
وتأتي أهمية الحوكمة التشريعة للمحافظة على الاستدامة الوطنية في هذا المجال، فالمستقبل الفضائي القادم في المملكة، ولم يعد الفضاء السعودي مجرد استثمار في التكنولوجيا، بل بات استثمارًا في المستقبل والإنسان والهوية الوطنية، حيث تنطلق المملكة من أرضها إلى فضاء واسع، لتكتب فصلًا جديدًا في قصة التنمية والابتكار العالمي.
ولذا يُعد قطاع الفضاء أحد المحركات الرئيسة للنمو والتقدم التقني في العالم المعاصر، فقد أسهم بصورة جذرية في تطوير تقنيات نستخدمها يوميًا، مثل أنظمة الملاحة والاتصالات والبث الفضائي، فضلًا عن دوره المحوري في مجالات التنبؤ بالكوارث الطبيعية، ومراقبة التغير المناخي، وتعزيز قدرات الرصد الكوني، كما أصبح للفضاء أبعاد إستراتيجية في مجالات الأمن السيبراني، وحماية الحدود، والمراقبة الدفاعية.
قطاع الفضاء.. التحديات والمُمكّنات
تكمن التحديات التي تواجه المملكة للريادة في هذا القطاع كبيرة، في ارتفاع التكاليف الرأسمالية للمشاريع الفضائية العالية، ونقص الكفاءات المحلية المتخصصة، والمنافسة الدولية، إلا أنه رغم هذه التحديات تستطيع المملكة من خلال الممكنات التي تغلّف برؤيتها وطموح أبنائها، التغلب عليها من خلال برامج حكومية داعمة، وتمويل متاح بسهولة، وأطر تنظيمية واضحة ومرنة.
ولا يُنظر إلى قطاع الفضاء في المملكة اليوم كصناعة ناشئة فحسب، بل كأفق إستراتيجي يفتح أبواب المستقبل أمام الاقتصاد الوطني والهوية السعودية، ومع الأرقام الطموحة والاستثمارات النوعية، يتضح أن المملكة تسير نحو بناء منظومة فضائية متكاملة، تجمع بين التقنية والابتكار والإنسان، لتكون ركيزة في تحقيق مستهدفات رؤيتها الطموحة.
وفي السنوات القادمة، سيتحوّل الفضاء إلى منصة رئيسية لتمكين الاقتصاد الرقمي، وتعزيز الأمن الوطني، ودعم التنمية المستدامة عبر تطبيقات المراقبة الأرضية، الاتصالات، والملاحة، كما أن بناء ميناء فضائي سعودي وتوطين صناعة الأقمار الصغيرة سيجعل المملكة مركزًا إقليميًا للفضاء، يربط بين الشرق والغرب، ويعكس الهوية الوطنية في أبهى صورها.
مجموعة نيو للفضاء.. استثمار فضائي بأيدٍ سعودية
تعمل المملكة العربية السعودية على بناء منظومة فضائية سيادية متكاملة، تمتد من البنية التحتية إلى التطبيقات، وتقودها الكفاءات الوطنية، وتدعمها الاستثمارات الإستراتيجية، وتُمكّنها التقنيات المتقدمة والذكاء الاصطناعي، في إطار حوكمة مسؤولة تواكب المعايير الدولية – وتأتي مجموعة نيو للفضاء (NSG) المملوكة لصندوق الاستثمارات العامة، في قلب هذه المنظومة لتترجم هذه الرؤية إلى واقع، وتعزز من مكانة المملكة كقوة فضائية إقليمية وعالمية.
وأوضح الرئيس التنفيذي للموارد البشرية بمجموعة «نيو للفضاء» معتز مشهور لوكالة الأنباء السعودية، أن التوجه السعودي نحو قطاع الفضاء يُجسّد امتدادًا طبيعيًا لرؤية المملكة 2030، التي تضع المواطن السعودي في صميم التنمية الوطنية، مؤكدًا أن قطاع الفضاء في المملكة لا يُنظر إليه كصناعة تقنية فحسب، بل كمنظومة إستراتيجية لبناء القدرات الوطنية المستقبلية، حيث تُدار التحديات العالمية المرتبطة بجذب الاستثمارات والتنافسية الدولية من خلال استثمار طويل الأمد في المعرفة وتأهيل الكفاءات، وبدعم متكامل من الممكنات التنظيمية والمالية التي يوفرها صندوق الاستثمارات العامة، ما يحوّل هذا القطاع إلى قناة حيوية لتمكين الشباب السعودي والمساهمة في قيادة الاقتصاد العالمي الجديد.
من جانبه أكد الرئيس التنفيذي للشركة الوطنية للخدمات الجيومكانية التابعة لمجموعة «نيو للفضاء» المهندس عبدالعزيز الفراج لـ”واس”، أن قطاع الخدمات الجيومكانية في المملكة، يُمثل اليوم أحد المحركات الرئيسة لنمو اقتصاد الفضاء، لما يتمتع به من قدرة عالية في تمكين القطاعات الحيوية وبناء أسواق جديدة قائمة على الابتكار والبيانات السيادية.
وأوضح أن هذا التقدم يستند إلى إرث تقني يمتد لأكثر من 12 عامًا من الخبرة المتراكمة في تطوير الأنظمة الجيومكانية المتقدمة عبر شركة الخدمات الهندسية والتقنية (Taqnia ETS) – الاسم السابق للشركة الوطنية للخدمات الجيومكانية -، التي شكّلت الأساس التقني والمعرفي لما وصلت إليه الشركة اليوم من نضج وتقدّم في الحلول والمنصات الجيومكانية.
وأكد الفراج أن المجموعة تواصل البناء على هذا الإرث من خلال الاستثمار في الابتكار، وتطوير منصات تحليل جيوفضائي متقدمة، وتوسيع قدرات الاستشعار عن بُعد، بما يحول البيانات الجيومكانية إلى أصل اقتصادي إستراتيجي يدعم التخطيط الوطني، ويرفع كفاءة اتخاذ القرار، ويدعم متطلبات الجهات الحكومية والقطاعات الحساسة بأعلى مستويات الاعتمادية والأمان.
كما نوّه بالدعم الإستراتيجي الذي تحظى به مجموعة «نيو للفضاء» من صندوق الاستثمارات العامة، مما أسهم في تمكين الشركة الوطنية للخدمات الجيومكانية من تسريع وتيرة التطوير، وتعزيز توطين التقنيات، وبناء منظومة وطنية متكاملة للخدمات الجيومكانية، تُسهم في ترسيخ مكانة المملكة كمركز إقليمي رائد في اقتصاد الفضاء، وركيزة أساسية لتحقيق مستهدفات رؤية المملكة 2030.
الذكاء الجيومكاني: حيث تلتقي السيادة بالتحليل والقرار
إن للذكاء الاصطناعي دورٌ كبيرٌ في قطاع الفضاء السعودي لا سيما مع تبوء المملكة مراتب متقدمة عالميًا في مجال الذكاء الاصطناعي، في حين سيمنحها دمج هذه التقنيات مع برامج الفضاء أفضلية تنافسية غير مسبوقة، وتستخدم المملكة الذكاء الاصطناعي في تحليل البيانات الفضائية القادمة من الأقمار الصناعية، والتنبؤ بالطقس الفضائي والظواهر المناخية، وكذلك إدارة حركة الأقمار الصناعية والحد من الاصطدامات، بالإضافة إلى تحسين استهلاك الطاقة داخل الأقمار، وقيادة الأقمار ذاتيًا دون تدخل بشري مباشر، ودعم أنظمة المراقبة البيئية والكوارث الطبيعية.
وفي هذا السياق، قال المدير الأول لتنفيذ الأعمال في الشركة الوطنية للخدمات الجيومكانية الدكتور محمد الفرحان لـ “واس”: إن دمج الذكاء الاصطناعي مع البيانات الفضائية، يمثّل تحولًا نوعيًا في كيفية إنتاج القيمة من الفضاء، حيث لم تعد البيانات وحدها كافية، بل أصبحت القدرة على تحليلها واستخلاص الرؤى الدقيقة في الوقت المناسب هي العامل الحاسم.
وأضاف: أن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في تحليل صور الأقمار الصناعية والبيانات الطيفية، يرفع من دقة التوقع، ويُسرّع اتخاذ القرار، ويمنح الجهات الوطنية استقلالية أكبر في إدارة معلوماتها السيادية، بما يخدم قطاعات حيوية مثل الأمن البيئي، وإدارة الكوارث، والتخطيط العمراني، مشيرًا إلى أن هذا التكامل بين البيانات، والتحليلات، والأتمتة، لا يعزز فقط القيمة المقدمة للعملاء، بل يبني ميزة تنافسية وطنية طويلة المدى، ويجعل من الذكاء الجيومكاني ركيزة أساسية في اقتصاد الفضاء السعودي.
منصة الرصد الفضائي للأرض.. بوابة وطنية بقدرات عالمية للوصول إلى البيانات الفضائية
نائب الرئيس الأعلى لمنصة الرصد الفضائي للأرض تركي السبيعي، أكد في تصريح لـ”واس”، أن إتاحة الوصول الآمن والمنظّم إلى البيانات الفضائية، ركيزة أساسية في تسريع التحول الرقمي الوطني، ودعم كفاءة اتخاذ القرار في مختلف القطاعات، مبينًا أن منصة الرصد الفضائي للأرض (NSG UP42) في المملكة العربية السعودية، تمثّل بوابة وطنية موحدة، تعتمد على أفضل وأحدث التقنيات العالمية، وتُمكّن الجهات الحكومية، والشركات، والمبتكرين من الوصول الفوري إلى بيانات الأقمار الصناعية عالية الدقة، وقدرات التحليل الفضائي المتقدمة، وبيانات الاستشعار عن بُعد الجاهزة لتطبيقات الذكاء الاصطناعي، وذلك ضمن بيئة سيادية وآمنة.
وأشار إلى أن المنصة لا تُعد مجرد حلٍّ تقني، بل قدرة وطنية إستراتيجية تُسهم في تمكين القطاعات الحيوية من اتخاذ قرارات أسرع وأكثر دقة، وتحويل البيانات الفضائية إلى أداة تمكينية شاملة، بما يعزز تنافسية المملكة إقليميًا وعالميًا في مجال الرصد الفضائي وتحليل البيانات الجيومكانية، ويدعم مستهدفات رؤية المملكة 2030.
ومن جانبه، أكد نائب الرئيس الأعلى للهندسة المتقدمة والتكنولوجيا في مجموعة «نيو للفضاء»، الدكتور عبدالله الجهني لـ “واس”، أن المملكة تعمل على تعزيز حضورها الدولي عبر شراكات مع وكالات فضاء عالمية ومراكز أبحاث دولية، كما أن الاستكشاف الفضائي السعودي لا يقتصر على الأبحاث، بل يهدف إلى خدمة التنمية الوطنية في مجالات الزراعة، البيئة، الاتصالات، والأمن، مشيرًا إلى أن المملكة تتجه تدريجيًا من مرحلة “المشاركة” إلى مرحلة “الريادة والتصدير المعرفي”.
وأوضح الدكتور الجهني، أن الاتصالات الفضائية تمثّل ركيزة أساسية في دعم القطاعات الحكومية والدفاعية والمدنية، لا سيما في ظل تنامي أهمية السيادة التقنية كمتطلب رئيسي للدول، مسلطًا الضوء على دور المجموعة المرتكز على تطوير أنظمة اتصالات فضائية متقدمة، مدعومة بقدرات هندسية وتنظيمية راسخة، تُمكّن الجهات الوطنية من الاعتماد على بنية تحتية موثوقة وآمنة، وتدعم في الوقت ذاته التكامل مع المعايير الدولية.
كما أشار إلى أن الحوكمة والتشريعات الفضائية التي تتبنّاها المملكة، تُشكّل إطارًا متوازنًا يجمع بين الاستدامة، والأمن، والابتكار، مؤكدًا أن استثمار المملكة في الفضاء ليس استثمارًا تقنيًا فحسب، بل استثمار في السيادة، والمعرفة، والمستقبل، ودورها العالمي المتنامي.
الجامعات السعودية والبحث العلمي الفضائي
الاستثمار في قطاع الفضاء لا يقتصر على التكنولوجيا والأقمار الصناعية فقط، بل يشمل أيضًا تنمية العنصر البشري عبر التعليم والبحث العلمي، وتعمل الجامعات السعودية مثل جامعة الملك سعود وجامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية (KAUST)، على برامج بحثية مرتبطة بالفضاء والتقنيات المتقدمة، مساهمة بذلك في إعداد الكوادر البشرية من خلال الاهتمام بتأهيل الطلاب والباحثين في تخصصات مثل هندسة الطيران، علوم الفضاء، والفيزياء التطبيقية.
كما تعمل هذه الجامعات على البعثات العلمية، فالمملكة ترسل طلابًا وباحثين إلى الخارج لاكتساب خبرات في وكالات فضاء ومراكز أبحاث عالمية، فضلًا عن تقديم البرامج التدريبية فهيئة الفضاء السعودية تدعم البرامج التدريبية وورش العمل لطلاب المدارس والجامعات لتعزيز الثقافة العلمية والفضائية، بما يتماشى مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 التي تدعم التعليم في مجال الفضاء كجزء من خطة طويلة المدى لتمكين الشباب السعودي من قيادة مشاريع مستقبلية في هذا القطاع، الأمر الذي يؤكد أن التعليم هو الأساس الذي تبني عليه المملكة طموحاتها الفضائية.
ومن هذا المنطلق، تبنّت جامعة الملك سعود ممثلة في كلية العلوم، مهمة تطوير تحديث كل ما له صلة بعلوم الفلك والفضاء، وفعّلت الكلية مؤخرًا الاتفاقية الموقعة بين الجامعة والهيئة السعودية للفضاء من خلال المشاركة في عدد من ورش العمل والاجتماعات المرتبطة بإعداد وتنفيذ الخطة الإستراتيجية لقطاع الفضاء، إضافةً إلى تعزيز الجانب الأكاديمي عبر المشاركة في تأسيس أكاديمية الفضاء، وقد أسهم فريق العمل بالجامعة في إعداد وتقديم عدد من المقترحات البحثية المشتركة مع الهيئة، تُوِّج بعضها بالفوز على المستوى العالمي بدعم من وكالة ناسا الأمريكية.
وفي إطار الإسهام في قطاع الفضاء والشراكات المجتمعية، شاركت الكلية بالتعاون مع الجمعية السعودية لهواة اللا سلكي، في تأسيس معمل متخصص ومتكامل التجهيزات لدراسة الطيف الراديوي، الذي يُعد من الأدوات الرئيسة في دراسة طبيعة المجرات والظواهر الكونية في النطاق الرادوي.
وعلى الصعيد المجتمعي، تضطلع الكلية ممثلةً بقسم الفيزياء والفلك بدور فاعل في نشر الوعي الفلكي بين الناشئة والمجتمع بصفة عامة، وذلك باستقبال أعداد كبيرة من الزوار من طلاب المدارس والمهتمين بعلم الفلك، حيث تتيح هذه الزيارات التعرف على التاريخ الفلكي من خلال متحف الفلك لفهم الظواهر الفلكية المتكررة مثل الخسوف والكسوف، وظهور المذنبات، ورصد القمر وغيرها، إضافة إلى محاكاة فيزياء النجوم عبر القبة الفلكية، واستخدام التلسكوبات الحديثة في الرصد والتعليم التفاعلي.
وفي الجانب البحثي العلمي الفضائي، تمتلك الكلية مراصد تلسكوبية ثابتة تشمل مراصد شمسية وأخرى لمتابعة الظواهر العامة (كوكبية وراديوية)، تُسهم في رصد الظواهر الفلكية ودراسة المناخ الشمسي والطقس الفضائي، ونتج عن ذلك نشر العديد من الأبحاث العلمية في مجلات علمية متخصصة ومرموقة، بما يعكس مكانة الكلية البحثية وإسهامها في تطوير المعرفة في قطاع الفضاء، كما تسعى الكلية لتحفيز التعاون البحثي العالمي مع مجموعات وبحثية ومراصد عالمية رائدة.
وفي هذا السياق، أكد عميد كلية العلوم الدكتور زيد عبدالله آل عثمان لـ”واس”، أن الكلية تمتلك معامل متقدمة في فيزياء المواد لها إسهامات بحثية في تحسين المواد المستخدمة في الأقمار الصناعية، إلى جانب إسهام المعامل الإشعاعية المتخصصة في تطوير دروع إشعاعية مخصصة للأقمار النانوية.
وأفاد بأن الكلية تحرص على مواءمة المناهج التعليمية والبرامج الأكاديمية مع مستهدفات رؤية المملكة 2030 في قطاع الفضاء، من خلال تضمين موضوعات متقدمة في الفيزياء الفلكية، علوم الفضاء، تحليل البيانات، الاستشعار عن بعد، والذكاء الاصطناعي ضمن الخطط الدراسية، إضافةً إلى تشجيع مشاريع التخرج والدراسات العليا المرتبطة بتطبيقات الفضاء، بما يسهم في إعداد كوادر وطنية مؤهلة تلبي احتياجات القطاع مستقبلًا.
بدوره أوضح وكيل كلية العلوم للدراسات والبحث العلمي الدكتور سعد عبدالعزيز آل داود لـ”واس”، أن الكلية تقدم حاليًا برنامجًا للدراسات العليا (لدرجة الماجستير-مسار الفلك)؛ وتتطلع قريبًا لإطلاق مسار دكتوراة في الفيزياء الفلكية المتقدمة، فيما تعكف الكلية – بدعم من هيئة الفضاء السعودية – على إنهاء وإطلاق برامج متخصص في علوم الفضاء والفلك لمسار البكالوريوس المتخصص.
وأشار آل داود، إلى أن الكلية تُسهم في دعم الأمن الفضائي عبر الأبحاث والدراسات المتعلقة برصد الطيف الراديوي، ومراقبة النشاط الشمسي، ودراسة الظواهر الفضائية المؤثرة في أنظمة الاتصالات والملاحة وكل ذلك يندرج تحت نطاق بحوث الطقس الفضائي وتأثيراته في الأرض، وتعمل كذلك على توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة في دراسة الظواهر الفلكية، ومعالجة بيانات الرصد، والتنبؤ بالتغيرات الشمسية، بما يدعم التوجه الوطني نحو الاستخدام الآمن والذكي للتقنيات الفضائية.
في حين أشار مدير إدارة كلية العلوم فيصل عبدالعزيز البركات لـ”واس” إلى إن الكلية تتطلع إلى تنفيذ عددٍ من المشاريع المستقبلية النوعية في قطاع الفضاء، من أبرزها تطوير برامج أكاديمية متخصصة في علوم الفضاء والفلك التطبيقي، وإنشاء مراكز بحثية متقدمة في مجال الفضاء بالتعاون مع الجهات الوطنية والدولية، والتوسع في المشاريع البحثية المرتبطة بالأقمار الصناعية الصغيرة (CubeSats)، وتحليل بياناتها، بالإضافة إلى تعزيز الشراكات مع الهيئة السعودية للفضاء والقطاعين الحكومي والخاص لدعم الابتكار والتوطين المعرفي.
وقال الدكتور زيد العثمان: إن الكلية قدمت إسهامات ملموسة في قطاع الفضاء، شملت المشاركة في عدد من المبادرات والورش الوطنية المتخصصة في مجال الفضاء، وتنفيذ ونشر أبحاث علمية محكمة في مجلات عالمية متخصصة في الفيزياء والفلك، وإشراك أعداد متزايدة من طلاب الدراسات العليا في مشاريع وأبحاث مرتبطة بعلوم الفضاء، فضلًا عن استقبال آلاف الزوار سنويًا من طلاب المدارس والمهتمين عبر برامج المرصد والأنشطة المجتمعية.
ورصدت “واس” وجود صورة تاريخية لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود – حفظه الله – في افتتاح المرصد الفلكي الذي يعد أول مرصد في المملكة، افتُتح في مقر الجامعة عام 1396هـ، وأكد عميد الكلية أن الصورة تأتي بمثابة رمز وطني ذي دلالة قوية تروي علاقته – أيده الله – التاريخية بجامعة الملك سعود منذ إنشائها حتى اليوم، مما يعكس الدعم الكبير الذي توليه القيادة الرشيدة للعلم والبحث العلمي وعلوم الفضاء.
وقال: إن هذا الحدث شكّل محطة تاريخية فارقة عززت مكانة المرصد ودوره العلمي والمجتمعي، وأسهم في تحفيز الباحثين والطلاب على مواصلة العطاء والابتكار في مجال الفضاء، بما يخدم تطلعات الوطن ورؤيته المستقبلية.
من جانبه قدم المختص في مجال الفيزياء الفلكية الدكتور أبوعزة المحمدي لـ”واس”، شرحًا وافيًا لما يحتويه قسم الفلك بالكلية من معارض ومعالم أثرية وتاريخية، موثقًا مسيرة علم الفلك في جامعة الملك سعود منذ إدخال مقرراته عام 1388هـ، مرورًا بإنشاء قسم مستقل وتجهيزه بتلسكوبات متقدمة، ثم دمجه مع قسم الفيزياء، وصولًا إلى تأسيس وحدة الفلك وإطلاق برامج الدراسات العليا، مؤكدًا أن هذا التاريخ يعكس حرص الجامعة على تطوير التخصصات العلمية وخدمة المجتمع من خلال البحث والرصد والتثقيف.
من هذه الجهود المتكاملة في المجالات كافة، يتضح أن المملكة العربية السعودية لا تنظر إلى الفضاء كقطاع تقني فحسب، بل كأفق إستراتيجي يعزز الهوية الوطنية، ويضع الإنسان في قلب التنمية، ويجعل من المملكة مركزًا إقليميًا وعالميًا في صناعة الفضاء والاستثمار فيه، وجعلت رؤية المملكة 2030 من الفضاء، جسرًا بين الحلم والإنجاز، دعمًا للشباب السعودي والمستقبل الذي يصنعونه بأيديهم.
الفضاء ليس مجرد أرقام تُسجَّل في تقارير، ولا مجرد أقمار تُطلق في مدارات بعيدة، إنه طريق وطني تسير فيه رؤية طموحة بخطى واثقة، لتربط بين الأرض والسماء، بين الهوية والابتكار، وبين الإنسان والمستقبل، والاستثمار فيه، استثمار في الهوية الوطنية التي تتجدد في مدار جديد، وفي الإنسان السعودي الذي يحمل طموحًا لا تحده حدود، فالمملكة لا تكتفي بأن تكون جزءًا من المستقبل، بل تصنعه وتضع بصمتها فيه، بوعيها وهويتها وابتكارها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى