الأرض والذكرة والذات في قصيدة الشاعر عوضه بن عثمان الغامدي
كتب – ماجد الغامدي :
الإستهلال المُلفت هو أكثر ما يشد المتلقي ويجذبه إلى القصيدة خصوصاً عندما يأتي في لباقة تعبير ورشاقة عبارة وطيف مضامين، وقد ضوّع الشاعر رياض الذائقة باستهلاله المُلفت الذي فتح آفاقاً على عوالم الشاعر وبواعثه وروافده ورؤاه.
سال وجه اشتياقي لين غطى مرابيع الديار
والمشاعر ليان وقيمة الحب للعاشق كبيرة
وجه اشتياقي، مرابيع الديار، المشاعر، قيمة الحب، العاشق، يستحضر كل هذه المعاني في مطلع القصيدة فيضع المتلقي في لهفة الانتظار ليرى كيف سيصوغ الشاعر كل هذه الومضات في قصيدة خاصة لمنبر شعري رفيع وتوقيت ارتقبه بعين الأمل والتأمل .
فجاءت القصيدة ليس فقط تعبيراً عن الذات، بل واحتفاءً بالإرث وانسجاماً مع الطبيعة وتآلفاً مع التاريخ، هذا التفاعل بين المكان والذات والامتداد خلق تناغماً وجدانياً جعل القصيدة أكثر من مجرد تعبير فني، فجعلها وثيقة شعورية تربط بين الذات والزمان والمكان بما لها من رمزية تجلّت في ثنايا القصيدة .
فلا يكتفي بوصف المكان وشوقه للمرابع أو استحضار الرموز والشخصيات، بل يعيد تشكيلها داخل وجدانه لتكون جزءاً من تجربته الشعرية، فكل بيت هو مرآة تعكس تداخل الموهبة والموروث وكل صورة هي امتداد لنبض داخلي لا ينفصل عن الأرض والتاريخ والأجداد.
فهو يرى قصيدته بوصفها سيدة حرفه لا مجرد كلمات تُقال بل كيان حي يتوشحُ فكرةً وابتكارا ومجداً وحريرا كما تتوشح الديار التي أحبها بتاريخها ومعالمها ورموزها، فهو يكتب قصيدته من قلب البيئة التي نشأ فيها وأكسبته هذا الألق ومن ذاكرة الأماكن التي تستحق الحب والحنين.
سيدة حرفي. اكسيها من الشعر فكرة وابتكار
قدها من ذهب ولباسها مجد تتوشح حريره
فلا يصف القصيدة فحسب، بل يمنحها صفات المكان الذي يعشقه والامتداد الذي يمثله ويجعلها مرآةً لمشاعره وامتداداً لحنينه لتلك الديار ووفاءً لأولئك الأجداد ، فحضوره هو انعكاس لعمق الجذور وأصالة الإنتماء وشموخ الشواهد ، فهو يتحدث كجزء من المكان يستمد شموخه، وكعطر روابيه يتنفسه ويغنّيه، وكفرعٍ طال وأورق .
سوقي (الصالبي) مثل التراحيب والحشمه بهار
كل رشفه توقد جذوة الشوق وتزيد الوتيره
من (شداك) وتعملاقه خذيت السمو والاقتدار
ومن ربى (نِيس) زادت هقوة البوح والمنبر مصيره
القصيدة تنبض بالحركة من حادي العيس إلى صول المهار إلى النخل الذي يطاول الغيم إلى الإرتباط المكاني بين نكهة الصالبي وجبل شدا وبين السمو الشعري الذي يستمده من قمة وادي الغانم الشعرية الشهيرة، وهذا المزج بين البن الصالبي وجبل شدا والحَربة وقمة وادي الغانم هو تجسيد شعري لهوية الشاعر حيث تتلاقي القمة بالنكهة والشيح بالمكان والشعر بالإرث في بوتقة واحدة لتقول إن للشعر جذوراً عميقة بين الأرض والذكرة والذات .
علم الورد واليشموم يشتاق لي والا يغار
وقَبّل القمة اللي في ربى وادي (الغانم) شهيرة
ومن خلال شاعرية المكان يمازج الشاعر بين رمزية القمة وشخصية شعرية عريقة في مشهد شعري يربط بين الأشخاص والقمم الشاهقة ، فالقمة هنا ليست مجرد ارتفاع جغرافي بل تمثل ذروة التجلّي الشعري و ( وادي الغانم ) ليس فقط مكان بل حاضن للذاكرة والهوية حيث تنبض الأرض بتاريخ من سبق وتتنفس القصيدة من روح الجد الشاعر (صالح ابن مسيفر رحمه الله) ، وهنا تنتقل القمة إلى رمز شعري يجسد الحنين والمرجعية والقدوة ، وهذا يضفي على القصيدة بُعداً عاطفياً وعمقاً تاريخياً وثقافياً ويربط التجربة الشخصية للشاعر بتجربة شعرية أوسع ليمازج بين رمزية المكان (القمة) وشخصية شعرية عريقة في ( وادي الغانم) حيث يتحول المكان من مجرد تضاريس إلى مرآة للهوية والإمتداد التاريخي ، فالشاعر لا يحضر وحده بل يحمل معه إرثاً من الكلمات وصوتاً من الماضي و زهواً من تلك الشوامخ ووهجاً من المجد الذي لا يذبل .
فهي رحلة وإن بدأت وتجلّت من (جبل الحَربة ) و (قمّة وادي الغانم الشعرية) ولكنها تستحضر شدا ونِيس و رغدان والشيح و اليشموم والعرعر والبن الصالبي وكل معالم الديار الجميلة وأيامها الخالدة التي تزيده عزماً وانطلاقاً وعلوّا .
يا مراقيب حلمي كل غيبه بعين الاعتبار .. رحت اغنيك بعزومي. ماغنيت لك ودع هريرة .. حادي العيس هوبل ..
فهي رحلة تمثيل لكل تلك الرموز فيقول رحت أغنيك بعزومي ويقول استحث الركاب .. ما غنيت لك ودّع هريره .. و في تأكيد لتوقد العزم وسمو الغاية يُلمح إلى مقابلة جميلة بين (رُحت أغنيّك بعزومي) وبين (وهل تُطيقٌ وداعاً ) !
مع ما يحمل المعنى من ومضات شعرية ألمعية فقد اختزلت قفا نبكِ .. وأضحى التنائي .. إلى إذا غامرت في شرفٍ مرومٍ فلا تقنع بما دون النجومِ وكأنه يعيد ما قاله أمير الشعراء :
مرعى جيادي ومأوى جيرتي وحمى
قومي ومنبتُ آدابي وأعراقي !
فينتقل من المكان والمكانة والتاريخ بما يحمل من الأصالة والعراقة والإرث إلى مكان ومكانة حاليّة وصناعة تاريخ جديد في رونقٍ عصري ومنبر شعري فريد، فيضم إلى تلك البواعث والروافد نوال الغاية وكأنه يقول إن رحلتي الشعرية التي استقت ينبوعها الأول من إرث الأجداد و استمدت تفردها من شموخ تلك القمم وأعبقتها بنكهة الأرج سيكافؤها الشاعر بأن يرصع بها تاج التحدي في منبر الشعر الأكثر إثارةً وجمالا .
ناولتني طرفها واعترض دونها صول المهار
بيني وبينها قفر من الخوف متوقد سعيره
والله اني لناولك الثريا واعديك المدار
واكتبك من مداد الفخر في صفحة المجد المنيرة
اشبحي لا تعدى الظل مبناه والنقع استثار
كيف احرك جماد الارض والميت اخاطب ضميره
وبين مراحل القصيدة والأماكن والقمم وحركة الشعور والإنتقال إلى مخاطبة القصيدة التي هي رفيقة الرحلة وسفير الوصول وغاية المراد ،فكما كانت إمتداداً في التاريخ والأرض والملامح فهي ممتدة أيضاً لحضوره إلى شرفة الشعر والمكانة المأمولة المنتظرة (كل رشفه توقد جذوة الشوق وتزيد الوتيره ) ، فيصف الشاعر مرحلة الإنتقال إلى شُرفة الشعر (ناولتني طرفها) ومافيها من تحدٍ ضارٍ وتنافس حميم (دونها صول المهار) وما يملك من مقدرة إبداعية لنقش حروفه في صفحة المجد المنيرة حتى في مراحل المنافسة المتقدمة (لا تعدى الظل مبناه والنقع استثار) عندما يحرك بصوَرِة الشعرية حتى الجمادات وكيف يخاطب حتى الأموات برمزية إلى الواقع الصامت، أو البيئة التي فقدت تفاعلها، وكأنها لا تستجيب لنبض الشاعر أو لنداء الإبداع ، وقد تكون إشارة إلى قدرته لإعادة الإنسجام والتآلف للذائقة ، أو للذوق الذي لم يعد يتفاعل مع الجمال.
امنحيني ما يمنحه التفاني للأحلام الكبار
من بغى يدخل التاريخ ماهو بلازم يستشيره
وبعد كل هذا التداخل بين المكان والشخصيات وذلك التماهي بين جغرافيا الروح وشواهد المرابع والديار يرى الشاعر أنه جمع زمام البواعث الشعرية وروافد الموهبة ومحفزات الإبداع ليسجل تاريخه الشعري بثقتة وعزيمتة وطموحه رغم التحديات فالموهبة الحقة تؤهلك لدخول التاريخ دون استئذان .
لقد أبدع الشاعر في نظم قصيدته و نسج عباراته، فأتى بها رشيقة السبك، قوية الحضور، متألقة البيان، تفيض بروعة التصوير ورصانة التعبير، وتخطف الأنظار، حيث امتزج الوهج الشعري بالحضور المسرحي، فكان التألق سمةً، والإبداع عنوانًا.
ماجد الغامدي
@majed_abushams




