“هدية باسل” قصيدة صامته بلغة الأطفال

بقلم د. آمنة إبراهيم عثمان أحمد
في أمّ القُرى، حيث لا تُغسل الأرواح بماء، بل تُنقّى بأنفاس الحرم، وحيث تهمس المآذن بذكر قديم كُتب في ألواح الوجود، أقيم احتفال، لم يكن مجرد مناسبة، بل كان تجليًا للامتنان في أبهى صوره.
احتشد الحضور في حفل أقامه فريق خليفة التطوعي بمكة المكرمة، احتفاءً برجلٍ منح المعرفة أجنحة، والإنجاز روحًا.
صلاح حسن السقطي، ليس فقط حاملًا لذهب الابتكار في معرض الاختراع السعودي، ولا مكلَّلًا بمجد القمة الاجتماعية بالمدينة المنورة، ولا متوَّجًا بأوسمة سيؤول وجنيف، بل رجلٌ أهدى العالم أفكارًا تمشي على قدمين، وارتقى بعطائه حتى لامس الحلم حدّ التجسيد.
كان المكان يفيض بنشيد الفخر، والقلوب تتسع كأنها تسبّح بالحضور.
لكن الحكاية لم تكتمل… حتى جاء المشهد الذي لا يُنسى.
صبي صغير، في العاشرة من عمره، يُدعى باسل ماجد بكر، نهض من المقاعد الخلفية، لا مدفوعًا بدعوة، بل مدفوعًا بشيء أصدق: النية.
في كفه اليمنى، قطعة شوكولاتة بسيطة، لفّها بشريطٍ أخضر كأنه نذر، ولم يكن يحمل معها إلا نبض قلبه.
تقدّم بخطى وئيدة، لكنّها كانت أثقل من التصفيق.
وقف أمام خاله، العالم المحتفى به، وقال بصوتٍ منخفضٍ لكنه تسلّل إلى عمق القاعة:
“أنا ما عندي هدية… بس جبت لخالي دي الحلاوة.”
لم تكن الحلوى شيئًا يؤكل، بل كانت قصيدة صامتة، رسالة مكتوبة بلغة الأطفال الذين لا يعرفون زيف التكلّف، ودرسًا صريحًا في الكرم حين يكون القلب هو الكف.
انحنى صلاح حسن السقطي، لا فقط ليأخذ الهدية، بل لينحني للمعنى ذاته.
ضم باسل، لا على سبيل الشكر، بل على سبيل الإقرار:
أن بعض اللحظات لا تمنحنا فقط الفرح، بل تعلّمنا كيف نكون بشرًا أفضل.
ساد صمت كثيف، ليس من نوع الصمت الذي يسبق الكلام، بل من نوع الصمت الذي يعلو على كل خطاب.
في تلك اللحظة، انقلبت الموازين، وتغيّر تعريف الهدايا.
لم تعد الذهبية هي الأهم، بل تلك الشوكولاتة الصغيرة التي خرجت من يدٍ صغيرة، تحمل قلبًا أكبر من القاعة.
باسل، لم يكن مجرد طفل، بل كان سؤالًا روحيًا ألقته الحياة على منصة الحفل:
“ماذا نهدي عندما لا نملك إلا أنفسنا؟”
وكان جوابه، في أبسط صورة، وأغناها:
“نُهدي القلب، كما هو، ملفوفًا بورقة شوكولاتة.”
وهكذا، لم تضيء القاعة بالأنوار، بل بانعكاس لحظة صافية
علّمتنا أن بعض الهدايا لا تُشترى، ولا تُغلف… بل تُقدّم بروحٍ على هيئة يد طفل.




