صهيل الهوى
بقلم : د. علياء المروعي
صهلت الروح عند مرآه وكأن عيناه برقت لتعانق عيناي، فأخبرته سرا ويحك يا برق وأنت الذي سرقت فؤادي علانية وسرا بقدومك علي؛ كأن الحب لم يطرق أبوابي من قبل. هذا حصاني وجوادي الذي اخترته لأذكر اسم الله عليه وعلى جمال لونه وبريق عينيه وسماحة روحه وعطفه وحنانه الذي لا يوصف، فصلوا على خير البشر سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعه بإحسان إلى يوم الدين أسوتنا الحسنة ومعلمنا ركوب الخيل ومشجعنا لحبه واقتنائه وتدريب أولادنا عليه.
ما بين جلجلة صوته التي أسرتني ورقة نحيطه عند ملمسه وشخيره الذي يشخر به في اسطبل امتلأ بجميع أنواع الخيول العربية و الأوربية الإنجليزية و الأصيلة والجزيرية، ليجعلني أهرب طمعا لمعانقته لتبرق عيناه عند مقدمي وتتهاوى روحي نحوه، كأن المسافات التي باعدت بيننا لم تكن، فيلثمني بحنية ويعانقني مرة، و يعز عليه كبريائه فيدير عني وجهه مرة أخرى معاتبا على غربة الأيام وتقصيري نحوه؛ ليصدر صوتا من منخريه فيقبع نحوي بصوته وصمته الذي فجأة ما يذوب جليده حينما أقبله؛ فينظر لي نظرة حانية مكتسحة بالعشق الدفين بين جنباته وتأملاته في عيني ومن ثم يميل برأسه نحوي ويمسح دموعي بناصيته و يبدأ في التقرب مني بشفاهه و أنفه كأنه يسرد لي حكايات عن ما حصل معه في غيبتي.
في تلاقي أعينكم بخيولكم تتجاوزون الوعي والإدراك كأن الكأس يدار ليذهب العقل بكل حلال، ولكن يبقى ذا اللب صاحب الإصرار بعقله واعيا أثناء لقيا من يحب، كأنه لوهلة ما فتيء يذكر مسرة اللقيا الأولى والثانية والتالية صدفة أو بموعد مسبق ليلوح جمال الأرواح في أفق السماء مثل تقاسيم غيمة عابرة محملة بأهازيج المطر الفواح وملامح سعادة غامرة بأعين لامعة ونفس هادئة مطمئنة؛ لتتسابق مع بنات الريح، فتجبر كسرا، وتداوي جرحا لم يتوقف عن النزيف منذ زمن مضى، و تجاري كوكبا برق كثغر متبسم، ليطول جمال عنقها وشموخ ناصيتها كما قال الشاعر البحتري:
أقبل ينقض انقضاض الكوكبِ
كأنه بازٍ هوى من مرقبِ
يطلب صيداً في فضاءٍ سبسب
لجائعٍ في وكره مزغبِ
كم أشعر أني محظوظه عندما اهتم والدي بي وغرس حب مبادئ الرياضة في ذهني وقلبي ولياقتي لأكمل له الصورة التي يتباهى بها دائما عن تجاوزي المستحيلات لأصبح خنساء ونسيبة بيته.
في ركوب الخيل رياضه تحرك كل عضله في جسدك لتشعر بها وتسعد بالاحساس المنبعث من داخلك كأنك شخص جديد يتوق للمزيد من الوقت ليقضيه بين الخيول يسبح مع صهيلها ويحتضنها بشوق عند دخوله عليها وقدومها عليه.
لهذا نجد أن معظم من يقتني أو يركب الخيل يتسم في الغالب بسمات تميزه عن الآخرين منها النبل والشجاعة والكرم والمروءة والوفاء والصدق والصبر والهدوء والحكمة وحب المعالي والسعي الدؤوب لأن فيها من الطبائع التي تماثل طبائع البشر وتتوافق معها في الشخصيات والمزاجية والحنان والعزة والإباء. لهذا ينصح المختصون كثيرا النساء والأطفال على اقتناء الخيول والتدرب على ركوبها لما فيها من متنفس لهم ووقع في نفوسهم بتهدئتها وتفريغ طاقاتهم وفهم الخيول لنفسيات أصحابها فتساعدهم على ترجمتها والإفصاح عما بدواخلهم بشفافية ويسر. وقد ذكر المتنبي في قوله:
ومـا الخيـلُ إلا كالصديقِ قـلـيـلـةٌ
وإنْ كثُرتْ في عينِ مَنْ لا يُجرِّبُ
نجد في كثير من الأوقات أن ترويض الخيول يبدأ من حبها وفهمها وفهم شخصياتها وتاريخها السابق وطباعها؛ فلا تأخذ وقتا في عسفها مع الشخص النبيل الصبور والحنون وإن لم تقبل العسف حينا وعصت وقتا، تعود لصاحبها نادمة إن عطف عليها واحتواها فتعتذر ان خذلته أو اساءت العشرة بسبب مرض أو وجع فأوقعته من على ظهرها من غير قصد وقوة؛ لتومئ برأسها نحوه وتعتذر بإصدار صوت كالحمحمة خافت يدل على أسفها وحزنها وظروفها الخارجة عن ارادتها، أو إن لم تستطع أن تتوافق مع صاحبها تموت قهرا، أو ينزل الله الكره في قلب صاحبها لتجد شخصا آخر يقتنيها ويصبر عليها وعلى مالم يحط به خبرا.
عندما أبدأ في ارتداء ملابس الفروسية وخوذة الرأس وأحذيتي (أكرمكم الله) الخاصة بركوب الخيل، استشعر قوة وسعادة تسري في عروقي تدفعني نحو الاسطبل لأبدأ خوض التجربة كل يوم من جديد في عالم الخيول والمروءة والفروسية فتصهل الروح وتجلجل بفرحة غامرة كأنها لم تخف ولم تسقط من ذي قبل!
كل مرة أشارف فيها على السقوط من الخيل عندما أخطئ أو أسهو لحظة، فأمد يدي نحو عنقه لا تشبث وأمسك بها بقوة مرة أخرى؛ فأحتمي بصهوة ظهره وعرفه؛
كأن لسان حاله يقول لي: علياء واصلي وقفي ولا تترددي وسابقي الريح واوسعي الخطى، فمجد العلا ينتظرك بإذن الواحد الوهاب، والروح تفداك يا أميرة الحسن والبهجة الغناء، فمن كحصاني يفادي بهبَاتي وان طالت بيننا المسافات.
إنه يهمس لي دائما بحنية: ابتسمي واتجهي نحو العلياء لتصنعي بباسم ثغرك أيامك فرحا وتخطين على خطى سليل المجد والأمجاد. وأقول له كما قيل في الشعر النبطي:
تَدْركْ وجودي وتَعْرفني وتَغليني
وتبِشْ لي وبَسْ قاصرْها إتِّحفَّاني
وتحسْ بي وبشعورْ تشَمَّمْ إيديني
ياكنَّها في المشاعرْ نفسْ الأنساني