مقالات

سائق التوكتوك الذي هز مصر!!

%d8%ac%d9%85%d8%a7%d9%84

جمال سلطان *

لا حديث طوال اليومين الماضيين في مصر سوى عن الشاب المجهول سائق التوكتوك الذي ظهر مع الإعلامي عمرو الليثي في برنامجه “واحد من الناس” في لقطة لمدة ثلاث دقائق ، لكنها دقائق كانت كافية لإحداث زلزال إعلامي وسياسي حقيقي في مصر من أقصاها إلى أقصاها ، ثلاث دقائق أحالت حياة كثير من أنصار الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى جحيم معنوي ، ومنحت خصومه طاقة فرح طاغية ممزوجة بشماتة سياسية ، خاصة وأن الصرخة هذه المرة تأتي من “الغلابة” الذين يتحدث باسمهم السيسي كثيرا، ويراهن على دعمهم له، وتفهمهم لسياساته وصبرهم عليه .
لا أظنني بحاجة لشرح أو إعادة ما قاله سائق التوكتوك ، فالفيديو الذي يحمل هذه الدقائق الثلاث انتشر في مصر انتشار النار في الهشيم ووصل إلى قرابة ثمانية ملايين مشاهدة حتى كتابة هذه السطور ، ومختصره صرخة حقيقية وعفوية من شاب بسيط التعليم، وفقير الحال من الانهيار الاقتصادي والاجتماعي والإداري الذي يحدث في مصر منذ قدوم السيسي ويدفع ثمنه الغلابة ، ومن انهيار قيمة مصر وقامتها في المنطقة العربية وفي العالم ، ومن تزوير حالة البلد في الإعلام الموالي حيث سارت عبارته العجيبة “تشوف مصر في الإعلام فيينا وتنزل الشارع تلاقيها بنت عم الصومال” ! ، سارت مثلا ونكتة ..
واللافت أن ما قاله سائق التوكتوك في هذه الدقائق لم يكن جديدا ، فهي شكوى يمكنك سماعها من كثيرين حولك في الشارع والعمل والمسجد والكنيسة والمواصلات العامة ، ولكن “حرقة” قولها والعفوية الشديدة في إطلاقها جعلها تصل لقلوب الناس بتلك السرعة الرهيبة ..
وقد اضطرت “اللجان”الالكترونية الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي ومعها بعض أنصار السيسي إلى إجراء عملية دفاع أولية متعجلة فوصفت سائق التوكتوك بأنه “إخوانجي” والبعض وصفه بأنه “مستأجر” والبعض نسب إليه صفات وأحوالا ثبت بعد ذلك أنها كلها غير صحيحة جملة وتفصيلا ، ولكن “الموالين” كانوا حريصين على تشويه السائق المسكين بسرعة وبأي صورة ، لمحاولة وقف تمدد تأثير كلامه الرهيب في وسط الناس من مختلف الشرائح ، سواء المهمشين أو الطبقة الوسطى أو حتى النخبة السياسية والإعلامية . المقارنة الأكثر شهرة في تلك الواقعة هي بين الخطاب السياسي الرسمي الذي تم ترويجه على مدار ثلاث سنوات تقريبا هي فترة حكم السيسي حتى الآن وثلاث دقائق هي مدة الفيديو لصاحب التوكتوك ، والمقارنة كانت تقول ببساطة أن ثلاث دقائق من سائق توكتوك نسفت ثلاث سنوات من دعاية حكم السيسي ، وربما الأدق أنها هزمت وسحقت الإعلام الرسمي والموالي ، سائق توكتوك فقير ومتوسط التعليم هزم خطابه الأفندية الذين يتقاضى الواحد منهم تسعة ملايين جنيه سنويا لينافق السلطة ويضللها “ويبلطج” ضد خصومها ويحاول تحسين صورتها أمام الناس ، الصدق والعفوية هزمت الدجل والنفاق ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على هشاشة المنظومة الإعلامية الرسمية والموالية ، بناء من قش ، تافه ومهترئ ، ويمكنك أن تنفخه ليطير في الهواء ويتلاشى في ثلاث دقائق فقط ، ليس من محترف ولا يحتاج خبراء .
وإنما من سائق توكتوك بسيط لم يسبق له أن كتب مقالا أو وقف أمام كاميرا في حياته ، ثلاث دقائق كانت كافية لفضح الإعلام المضلل ولأن تدعو القيادة ـ إن أحسنا الظن برد فعلها ـ لأن تجري مراجعات جادة لتصحيح المسار ، سواء في سياساتها التي كشفت تلك الدقائق عن كارثيتها على المواطن العادي ، أو في إنفاقها الغزير على إعلام منافق ومضلل ثبت أنه ضعيف وتافه ولا يحترمه الناس . يحسب للإعلامي عمرو الليثي جرأته في نشر الدقائق الثلاث ووفاؤه بوعده لسائق التوكتوك عندما ترجاه أن لا يقطع من كلامه ، فوعده بذلك ووفى له بوعده ، كما يحسب ذلك بالتأكيد لفريق العمل في البرنامج سواء مخرج الحلقة أو المعد ، وبدون شك فإن إذاعتها في قناة فضائية منحها انتشارا جيدا ، لكن الحقيقة أن الضجة الكبرى والزلزال لم يأت من القناة الفضائية ، وإنما أتى من صفحات التواصل الاجتماعي ، الفيس بوك والتويتر ، التي أخذت الفيديو وبثته فانتشر بالملايين ، وتقريبا لم يبق أحد في مصر لم يشاهده الآن ، وربما لو لم تكن هناك تلك الشبكة الرهيبة من “ميديا الغلابة” لما سمع بأمر سائق التوكتوك إلا عدد محدود من الذين تابعوا الحلقة في التليفزيون ، ولكن الذي منحها هذا الانتشار وجعلها طاقة غضب ضخمة وهائلة استدعت أن يتصل رئيس الوزراء بعمرو الليثي ـ حسبما نشر ـ لكي يسأله عن موضوع سائق التوكتوك ، هذا كله كان من صفحات التواصل الاجتماعي ، وهو ما يؤكد من جديد أن مصر ، كما العالم ، دخلت في مرحلة جديدة لم يعد يصلح فيها الهيمنة السلطوية على شاشة تليفزيون أو صحيفة فينتهي الأمر ، وأن كل مواطن ، مهما كان فقره أو تهميشه ، أصبح يملك آلة إعلامية جبارة ، بل آلات ، وأن الأجهزة التي ما زالت تفكر بعقلية الستينات والسبعينات وحتى الألفين ستعاني كثيرا ، وستورط القيادة السياسية في المزيد من الاضطراب والحرج ، الدنيا تغيرت يا باشوات ! .

* نقلا عن ” المصريون”

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى